قطري بن الفجاءة.. أمير الشعر والموت
لا يَرْكَنَنْ أحَدٌ إلى الإحْجامِ ** يوم الوَغَى مُتَخَوفًا لحِمَامِ
فلقد أراني للرماح دَريئَةً ** من عَنْ يميني مَرَّة وأمامي
قطري بن الفجاءة
«قطري بن الفجاءة» أحد شعراء الخوارج المبرزين، وواحد من فرسانهم المعدودين، يرتفعُ نسبه إلى «مالك بن عمرو بن تميم المازِني»، وكانت له كنيتان، كنية في السِّلْم وهي «أبو محمد»، وكنية في الحرب وهي «أبو نعامة»، ونعامة فرسه. والفجاءة لقبٌ لأبيه، لأنه كان غاب في اليمن زمنًا ثم أتى قومه فُجاءة، واسم أبيه هذا جَعْوَنَة بن يزيد بن زياد.
وقد ولد قطري في البادية عام 30هـ، ويذهب الدراسون إلى أن ميلاده كان بموضع بين البحرين وعُمان يقال له «الأعدان»، وهو المكان المعروف اليوم بالمعدان في الجنوب الشرقي من قرية الخوير في شمال دولة قطر. لكن الدار قطني ذكر في نسبه أنه قطري بن الفجاءة جعونة بن مازن بن يزيد بن زياد بن مالك بن عمرو بن تميم، وهو ما يشي بأن لفظة قطري هي اسم صريح له، وليست نسبة لبلدة في السواحل الشرقية من الجزيرة العربية كما ذهب بعض المؤرخين.
حياته وصفاته
لا يُعرف عن ظروف النشأة الأولى لقطري بن الفجاءة شيء كثير، ذلك أن كُتَبَ التاريخ لم تلتفت إليه إلا بعد أن ذاع صيته وصار رأسًا من رءوس الخوارج وواحدًا من أبرز فرسانهم وشعرائهم في حقبة متقدمة من حياته. فقد كان كما يقول ابن كثير: «من الفرسان الشجعان المذكورين المشهورين»[4] وقال صاحب كتاب «سنا المهتدي» في وصفه: «كان طامَّة كبرى، وصاعقة من صواعق الدنيا في الشجاعة والقوة، وله مع المهالبة وقائع مدهشة، وكان عربيًا مقيمًا مغرمًا وسيدًا عزيزًا وشعره في الحماسة كثير».
كان قطري رمزًا للفتك والبطش والقوة التي لا تعرف الحدود، وثمة وقائع كثيرة ترويها كتب الأدب والتاريخ تشهد بجسارته وشدة بأسه.
كان قطري فارسًا شجاعًا، وخطيبًا فصيحًا بليغًا، وشاعرًا مفلقًا مبينًا، وكان من أوائل أصحاب «نافع بن الأزرق»، الذي نسبت إليه طائفة الأزارقة من الخوارج الذين خرجوا على «الإمام علي»، رضي الله عنه، بعد واقعة التحكيم الشهيرة. ولما قُتل نافع بن الأزرق؛ بايع أتباعُه الذين عرفوا بالخوارج الأزارقة قطريَّ بن الفجاءة أميرًا عليهم، ولقبوه بأمير المؤمنين وخليفة المسلمين.
ويقول «المبرد الكامل» في توليه أمر الخوارج بعد مقتل ابن الأزرق: «ثم إن الخوارج أداروا أمرهم بينهم، فأرادوا تولية عبيد بن هلال، فقال: أدُلُّكم على من هو خير مني! من يطاعن في قُبُلٍ، ويَحْمِي في دُبُر، عليكم قطريَّ بن الفجاءة المازني. فبايعوه».
واستفحل أمر قطري في زمن «مصعب بن الزبير» لمّا ولي العراق في خلافة أخيه «عبد الله بن الزبير». فيُرْوَى أن قطريًا بقي ثلاث عشرة سنة، وقيل عشرين سنة، يقاتلُ الأمويين، ويُسَلّم عليه بالخلافة وإمارة المؤمنين، و«الحجاج بن يوسف» يسيّر إليه جيشًا بعد جيش، وهو يردهم ويظهر عليهم
وكانت له مع «المهلب بن أبي صفرة الأزدي» وقائع كثيرة، واجه فيها المهلبَ وأبناءه وقُوَّاد جيوشه، وبعد كر وفر حرب طويلة استطاع المهلب إزاحة قطري والذين معه من الأزارقة إلى أصفهان، وفي أرضها وأرض الأهواز وكرمان أقام قطري دولة وجبى الأموال، فاجتمعت إليه جموع كبيرة فقوي أمره، وصار يتطلع إلى الاستيلاء على البصرة.
وحاول المهلب كبح جماحه فراح يكاتب أهل «إصطخر» والقرى المجاورة سرًا فعلم قطري بهذه المكاتبات فهجم على إصطخر وهدمها على أهلها وأراد مثل ذلك بمدينة «فسا» فاشتراها منه أزاد مَرْد بن الهِرْبذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها.
واستمر الصراع بين قطري وبين الأمويين، يرسلون إليه الجيوش، وهو صلب يستعصي عليهم بما أوتي من قوة وجسارة، غير أنه ما لبث أن هُزِمَ مرة هزيمة قاسية، دب الخلاف بعدها بين الأزارقة وانقسموا على قطري حتى ضعف أمره وانتهى بمقتله في معركة بينه وبين جيشٍ من جيوش الأمويين بقيادة «سفيان بن الأبرد الكلبي»، وكان الذي باشر قتل قطري سَوْرَة بن أبجر الدارمي، من بني أبان بن دارم.
وكان ذلك سنة 78هـ. ثم أُخِذَ رأسه فجيء به إلى الحجاج. وقيل إن قتله كان بطبرستان في سنة تسع وسبعين، وقيل عَثَرَ به فرسه فاندقت فخذه فمات، فأُخِذَ رأسه فجيء به إلى الحجاج.
وقد كان قطري في حياته كلها رمزًا للفتك والبطش والقوة التي لا تعرف الحدود، وثمة وقائع كثيرة ترويها كتب الأدب والتاريخ تشهد بجسارة قطري وفتوته وشدة بأسه ومخافة الناس منه، ومن ذلك ما جاء في شعر لسَوَّار بن مضرَّب السعدي أحد بني سعد بن تميم، وكان الحجاج بن يوسف قد ألزمه الخروج إلى قتال قطري، فهرب، وقال في ذلك:
أقاتِلِيَ الحجاجُ إن لم أزُرْ له ** دَرَابَ، وأترك عند هند فؤاديا
فإن كان لا يرضيك حتى تردني ** إلى قطري، لا إخالك راضيا
وحُكي عنه أنه خرج في بعض حروبه وهو على فرس أعجف وبيده عمود خشب، فدعا إلى المبارزة، فبرز إليه رجل، فحَسَرَ له قطري عن وجهه، فلما رآه الرجل ولَّى عنه، فقال له قطري: إلى أين؟ فقال: لا يستحيي الإنسان أن يفر منك.
وذكره ابن عبدربه في العقد الفريد، وعده أحد فرسان العرب في الإسلام وقرنه من حيث الشجاعة والإقدام بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وعبد الله بن خازم السلمي وغيرهم، حتى لقد رُوِيَ: «ما استحيا شجاع قط أن يفر من عبد الله بن خازم، وقطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة». وقد روى هذا القول نفسه ابن قتيبة في عيون الأخبار قال: «قال الزبيري: ما استحيا شجاع أن يفر من عبد الله بن خازم السلمي وقطري بن الفجأة».
وقد ذهب بعضهم في القول بفتك قطري مذاهب بعيدة، حتى قال الجاحظ في «البيان والتبيين»: «كان [قطري بن الفجاءة] يدين بالاستعراض والسباء وقتل الأطفال. والمراد بالاستعراض أن يعترض المرء الناس يقتلهم!
ويروى صاحب «الكامل» كذلك أن قطريًا قتل رجلاً حدَّادًا من الأزارقة كان يعمل نِصَالاً مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فأوقع المهلب بالحيلة الكاذبة بينه وبين قطري فقتله قطري من غير أن يتبين حقيقة الأمر، أو يقف على براءته؛ فقيل له في ذلك، فقال قطري: «قتلُ رَجُلٍ في صلاح الناس غيرُ مُنْكَر، وللإمام أن يَحْكُمَ كَذِبًا بما يراه صلاحًا، وليس للرعية أن تعترضَ عليه».
شعره وخُطَبُه
اقترن ظهور الخوارج منذ البداية برفض كل الأوضاع السياسية القائمة، والتفوا حول فكرة سياسية جعلتهم أقرب الطوائف الإسلامية في العصر الأموي إلى مفهوم الحزب السياسي، الذي يحارب خصومه في سبيل هدف واحد وفهم خاص للحكم ورأي الدين فيه. فهم لم يعتمدوا في دعوتهم على انتماء ديني أو قبلي أو نزعة إقليمية، بل جمعهم على اختلاف قبائلهم رأي واحد في الخلافة هو أنها شورى بين المسلمين جميعًا، ولا فضل فيها لعربي على عجمي، ولا لقرشي على غيره، فالحكم لله!
كان الخوارج إذن أصحاب سياسة، يناضلون من أجلها، ولم يكونوا شعراء في المقام الأول، ولسنا نجد من بينهم ما يمكن أن يعد من شعراء ذلك العصر إلا قلة قليلة جاء شعرها أقرب إلى النظم الذي يفتقد الموهبة الشعرية الحقة. وكان هذا شأن شعر الخوارج بعامة إلا ما كان من قطري بن الفجاءة، فقد جاءت بعض مقطوعاته آية في باب الشعر، حتى إن بعض شعره تفوق في الشهرة عليه هو نفسه.
ومن ذلك عينيته الشهيرة التي يخاطب فيها نفسه يحثها على الشجاعة ويحملها على المكاره، هي تدل على مقدار شجاعته واستبساله واستهانته بالموت في سبيل نشر مذهبه:
أَقولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَـعَاعاً ** مِنَ الأبطَالِ وَيْحَـكِ لَنْ تُرَاعِي
فإِنَّكِ لَو سَـأَلْتِ بَقَـاءَ يَوْمٍ ** عَلىَ اَلأَجَلِ الَّذِي لَكِ لَمْ تُطَاعِي
فَصَبْراً في مَجَـالِ الَموْت صَبْراً ** فما نَيْلُ اَلْخُلُودِ بمُسْـتَطَاعِ
ولا ثَوْبُ البَقَـاءِ بِثَوْبِ عِزٍّ ** فَيُطْوَى عَنْ أَخِي الْخَنَـع الْيَرَاعِ
سَـبيلُ اَلَمْوتِ غايَـةُ كُلّ حَيٍّ ** فَدَاعِيهِ لأَهْـلِ الأَرْضِ داعٍ
وَمَنْ لاَ يُعْتَبَطْ يَسْـأَمْ وَيَهْرَمْ ** وَتُسْـلِمْهُ الْمَنُونُ إِلى انْقِطاعِ
وَمَا لِلْمَرْءِ خـيْرٌ فِي حَيَـاةٍ ** إِذَا مَا عُدَّ مِـنْ سَـقَطِ المتَاعِ
وقد علق عليها ابن خلكان بقوله: «وهي تشجعُ أجْبَنَ خلق الله، وما أعرِفُ في هذا الباب مثلَها، وما صدرت إلا عن نفس أبيةٍ وشهامةٍ عربية».
ومما رواه له صاحب الحماسة بيتان فاتكان يقول فيهما:
ألَا أيها الباغي البِرَازَ تَقَرَّبَنْ ** أُساقيك بالموت الذُّعَافَ المقَشَّبَا
فما في تَسَاقي الموتِ في الحربِ سُبَّةٌ ** على شاربيه، فاسْقِني منه واشربا
وكذلك قوله:
لا يَرْكَنَنْ أحَدٌ إلى الإحْجامِ ** يوم الوَغَى مُتَخَوفًا لحِمَامِ
فلقد أراني للرماح دَريئَةً ** من عَنْ يميني مَرَّة وأمامي
حتى خَضَبْتُ بما تَحَدَّرَ من دمي ** أكْنَافَ سَرْجِي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصَبْتُ ولم أُصَبْ ** جَذَعَ البصيرةِ قارِحَ الإقدام
وقطري معدود في جملة خطباء العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة، وقد أورد له «الجاحظ» في «البيان والتبيين» طرفًا من خطبه فقال:
«صعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال: أما بعد فإني أحذركم الدنيا؛ فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حَبْرَتُهَا ولا تؤمَن فجعتها، غرّارة ضرارة، خوّانة غدّارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة، بدالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى: (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً)… إلخ»
هل كان قطري بن الفجاءة إرهابيًا؟
إذا صحت نسبة هذه الخطبة التي أوردها الجاحظ لقطري، وما على شاكلتها من بعض الأخبار الأخرى، فهي جميعًا تدل على أنه كان زاهدًا، راغبًا في الآخرة، عازفًا عن الدنيا. ومهما يكن من أمر؛ فقطري من أشراف تميم، ولم يكن متطرفًا، بل أظهر تسامحًا كبيرًا؛ إذ لم يكن يعد القَاعد (أي القاعد عن نصرة عليّ وفق عقيدة الخوارج) كافرًا، وقد أدى اعتداله إلى انضمام أعداد كبيرة إلى صفوف الخوارج. وهو شاعر مجيد لا يميل إلى العنف خارج حدود تطبيق مبادئ الحركة والدفاع عنها، كما قد يكون انضمامه المتأخر إلى صفوف الخوارج من الأسباب التي جعلته لا يتأثر كثيرًا بالأفكار الصلبة لبعض زعمائها من الأوائل.
وثمة شواهد على تسامحه وفهمه ولين جانبه رغم ما اشتهر به من عنف وقسوة؛ فقد جاء في «عيون الأخبار» أن رجلاً من العرب قال: انهزمنا من قطري وأصحابه فأدركني رجلٌ على فَرَس فسمعت حِسًّا منكرًا خلفي، فالتفت فإذا أنا بقطري فيئست من الحياة، فلما عرفني قال: اشدد عنانها وأوجع خاصرتها قطع الله يديك، قال: ففعلت فنجوت منه.
وكان المهلب بن أبي صفرة دس إليه رجلاً نصرانيًا، فقال له: إذا رأيت قطريًا فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدتُ لك، ففعل النصراني فقال قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك. فقال له رجل من الخوارج: قد عَبَدَك من دون الله. وتلا: «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون». فقال قطري: هؤلاء النصارى قد عبدوا عيسى بن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئًا، فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه، وقال : أقتلت ذميًا! وفي إنكاره هذا دليل على فهمه وفقهه وتسامحه.
التعليقات على الموضوع