بحث كامل عن معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية
هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميَّة، وأمه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان مولده بالخَيْفِ من منى قبل الهجرة بخمس عشرة سنة، وقد أسلم يوم فتح مكة، هو وأبوه وأخوه يزيد، وأمه هند، وله من العمر حينئذٍ ـ ثلاث وعشرون سنة.
وقد أشارت كتب التاريخ المعاصر، التي استقرأت تاريخه من أمهات كتب التراث التاريخي، التي سنعتمد عليها في هذا البحث، أنَّ المصادر لا تزودنا بمعلومات كافية عن مراحل حياة معاوية الأولى، وعلى وجه الخصوص حياته قبل الإسلام. وقد ولد معاوية قبل بعثة النبيّ عليه الصلاة والسلام بخمس سنين، وأسلم، رضي الله عنه، في السنة الثامنة للهجرة إبّان فتح مكة، وكان عمره حوالي ست وعشرين سنة، وعُدّ منذ تلك اللحظة من الطلقاء، أسوةً بأبيه وأخيه يزيد.
ويُعَدّ معاوية رضي الله عنه واحدٌ من الشخصيات المحوريّة في تاريخنا الإسلاميّ، بوصفه صحابياً وقائداً وسياسياً مخْلفاً حول شخصيته حتى وقت الناس هذا، رؤىً ومواقف. بما أسهم في تحويل أمر الخلافة من الشورى إلى الإرث الملكي، كما يرى كثيرون، مما هو معروف في التاريخ لكل ذي فكر وعين. ولكن المستقرئ المنصف للتاريخ لا يستطيع أن يغفل إنجازاته التاريخية العظيمة إقراراً لعظمة الأمة الإسلامية؛ من حيث فتوحاته التي أسهمت في هيبتها ردحاً طويلاً جداً من الزمن، كما سيتبين سبيل ذلك في قادم من صفحات هذا البحث.
ولكن من الإنصاف كذلك، أن نذكر أن المستقرئ للتاريخ أيضاً، مقارنةً بين البيت الهاشميّ، ومنه عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه وآل البيت النبويّ، وبين البيت الأمويّ ومنه معاوية رضي الله عنه؛ سوف يجد فارقاً عريضاً في سيكولوجية التركيبة القلبية، فعلى حين مال البيت الهاشمي إلى التقلل من أمر الدنيا مطَّية بعزها وزخرفها إلى الآخرة، مال الأمويون إلى العزّ وأسباب الوجاهة. حتى أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلم، وهو المستقرئ الأعظم حدَّةً في الذكاء الاجتماعي، راعى يوم فتح مكة ذلك. فأراد أن يعطي لأبي سفيان خصوصيةً من عظمةٍ يتألف بها قلبه، وهو حديث عهدٍ بالإسلام ـ يومئذٍ ـ، فقال، بعد أن أعلن أنَّ من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن ـ "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن". وذلك من منطلق "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام".
ولم يتخلَّ الشعور بالعزّة عن معاوية بعد إسلامه عنه قبل إسلامه، من حيث التذرّع بأسبابها، ويكفي أنْ نسوق دليلاً واحداً مهماً من خلال كتب التاريخ، يبين عن الفارق بين واحدٍ كمعاوية بن أبي سفيان ممثلاً للبيت الأمويّ، وآخر كالحسين بن عليّ رضي الله عنهما ممثلاً للبيت الهاشمي زهداً وورعاً وتقللاً من أمر الدنيا، في مقابل التفاخر بالأصل والحسب عند معاوية. فقد رُوي أنَّ الحسين بن على أعتق جاريةً له، ثم تزوجها بعد ذلك، فكتب معاوية إليه: "من أمير المؤمنين معاوية إلى الحسين بن عليّ أمّا بعد، فإنه بلغني أنك تزوجت جاريتك، وتركت أكفاءَك من قريش، ممن تستحسنه للولد، ونمجِّد به في الصهر، فلا لنفسِك نظرت ولا لولدكَ انتقيت.
فكتب إليه الحسين: "أمّا بعدُ فقد بلغني كتابك، وتعييرك إياي بأني تزوجت (مولاتي)، وتركت أكفائي من قريش، فليس فوق رسول الله منتهى في شرفٍ، ولا غاية في نسب، وإنما كانت مِلْكَ يميني، خرجت عن يدي بأمرِ التمست فيه ثواب الله تعالى، ثم ارتجعتها على سنة نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، ووضع عنَّا به النقيضة. فلا لوم على امرئٍ مسلم إلا في أمر مأثمٍ، وإنما اللوم لوم الجاهلية". وتكررت القصة مع علي بن الحسين بن علي المعروف بزين العابدين؛ إذ أعتقَ جاريةً له وتزوجها، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيره بذلك. فكتب إليه زين العابدين: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وقد أعتق رسول الله صفية بنت حييّ بن أخطب وتزوجها، وأعتق زيد بن حارثة، وزوجة بنت عمته زينب بنت جحش".
ومنذ دخول معاوية إلى الإسلام بدأ حياته مجاهداً ، فقد اشترك رضي الله عنه مع الرسول صلّى الله عليه وسلَّم وصحبه في غزوة حنين (8 هـ،/628 م) ضد قبيلة هوازن، وكافأه الرسول تأليفاً لقلبه بمائةٍ من الإبل من غنائمها وأربعين أوقية، ومن مميزات شخصيته التي كانت فارقاً مهماً في شخصيته العلميَّة معرفته للقراءة والكتابة في مجتمع أميًّ.
وقد أوردت المصادر فيما يروي د.العقيلي ـ أخباراً يُسْتفاد منها أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قد جعله أحد كتاب الوحي. فإنَّ ابن حجر العسقلاني يشير إلى أنَّ معاوية كان يكتب أيضاً رسائل النبيّ صلَّى الله عليه وسلم إلى رؤساء القبائل العربية. وقد ذكر في المصادر أنَّ معاوية روى عن النبيّ صلَّى الله عليه وسلم وصحابته حوالي مائة وثلاثين حديثاً، ويروي ابن هشام أنَّ النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم آخى بين معاوية بن أبي سفيان، وبين الحُتات بن يزيد المجاشعيّ.
ولمّا أدرك معاوية عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ندب معاوية على رأس الفرقة التي بعث بها الخليفة إلى يزيد بن أبي سفيان في بلاد الشام. وكان تعداد هذه الفرقة حوالي ثلاثة آلاف من مختلف رجالات القبائل العربية، وكانوا في الأصل بقايا جيش خالد بن سعيد بن العاص، الذي هزمته الروم بمساعدة القبائل العربية الموالية لهم، مثل تنوخ وكلب ولخم وجُذام وغسّان، وذلك في معركة مرج الصُّفَّر سنة 13هـ/ 633م. وكان من نتيجتها قتل خالد وهزيمة جيشه.
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ظلّ معاوية يعمل تحت إمرة أخيه يزيد في بلاد الشام التي عرف فيما بعد خباياها ووثق في أهلها ووثقوا فيه، ومما هو معروف أنه حارب إلى جانب أخيه ووالده في معركة اليرموك، التي كانت بداية النهاية للوجود والنفوذ البيزنطي في بلاد الشام، وقد عمل معاوية ـ ثانية ـ تحت إمرة أخيه يزيد في فتح مدن صيدا وجبيل وبيروت. ثم قاد أول حملة بنفسه ضد مدينة (عِرْقة) قرب طرابلس، واستطاع أنْ يفتحها، عاملاً على ترميم قلعتها.
وقد سنحت الفرصة لمعاوية لاكتساب أوّل خبرة إدارية حقيقية سنة سبع عشرة للهجرة، حين اختاره الخليفة عمر رضي الله عنه، ليكون والياً على إقليم الأردن، فكانت هذه الولاية الحقيقية قبل أن يتولى إمرة الشام بعد ذلك؛ التي يبدو أنه ولي أمرها بعد أخيه يزيد سنة 19 هـ/639م. وقد كان اختياره والياً على إقليم الشام بكامله في عهد الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وذلك إثر وفاة عبدالرحمن بن مجزِّر الكنافيّ، والي فلسطين، واستقالة عمير بن سعد الأنصاري، والي حمص وقنّسرين لظروف مرضية، ثم أضيف أقليم الجزيرة، بين العراق والشام لولاية معاوية. وقد قام معاوية في إقليم الجزيرة بعمل جهد في توطين القبائل العربية فيه، فأسكن بني تميم في الرابية، وأسكن خليطاً من قيس وأسد في المازحين والمديبر... ونظم حاميات ترابط في مدن الإقليم من أهل العطاء.
زواج معاوية وأولاده:
تزوج معاوية فيما وصل إلينا من أخباره ـ من أربعة نساء، أولاهنّ فتاة بدوية من قبيلة (كلب) اليمنية تسمى ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة الكلبي، وقد ولدت له ابنه يزيد في سنة 25 هـ/645م، كما ولدت له ابنته أمة رب المشارق التي توفيت صغيرة.
أما عن زوجته الثانية فهي قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، ثم الثالثة وكانت فاختة بنت مرطة بن عبد عمرو بن مناف، وقد ولدت له ابنه عبدالرحمن وبه كان يُكنَّى، ولكنه توفي صغيراً، وعبدالله وكان محمّقاً ضعيفاً، وابنته هند، وتزوج كذلك من كنود بنت قرظة، وقد ولدت له بنتين رملة وصفية. إذن لم يبق من أولاد معاوية الذكور على قيد الحياة سوى يزيد، الذي كان للأمة معه أمر خطير وجلل، تحولت معه تحولاً فارقاً، كما عرفنا من كتب التاريخ.
معاوية بين بداية عهد ونهاية آخر
كان موت عثمان بن عفان رضي الله عنه مُرهِصاً ببداية نكبة أفاد منها للأسف كثيرون، أولهم معاوية بن أبي سفيان، يصدق عليها "مصائب قوم عند قوم فوائد"، ولكن الفوائد في نهاية الأمر لم تكن من صالح وحدة الأمة. مات ذو النورين بعد أن جاء خلفاً ليناً رقيقاً لخليفة قوي لا يهادن، ولا يأخذ في الدين والدنيا إلا بالشدة؛ إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكم كان د. محمد حلمي ـ رحمه الله ـ مصيباً حين حلل الفارق بين شخصيتي عثمان وعمر رضي الله عنهما حين يذكر قائلاً: "لقد كان مفتاح سياسة عثمان، رضوان الله عليه قوله في مجلس السّتة :لَئن تعينوا حجراً خير من أن تولوا مرة أخرى رجلاً مثل عمر). ذلك أن عمر بن الخطاب اتخذ سياسة الحزم والتشديد في رعاية أمور الدولة أسلوباً مفضلاً للاحتفاظ بالأمة متماسكة البنيان، ولصرف قادتها عن الانغماس في الترف والانشغال بمباهج الدنيا، التي تكاثرت وتنوعت باتساع حركة الفتوح، ولهذا شدد الرقابة على القادة من أصحاب النبي، صلوات الله عليه، وحرم عليهم التغيب عن المدينة بغير إذن ولأجل غير محدود، فجاء عثمان في مجلس الستة وقبل أن يتولى الخلافة، معبراً عن رغبة عدد من القادة في التخفف من القيود، التي حدت من حريتهم وحركتهم طوال عهد عمر".
لقد كان الانتقال من عهد قوة وتشدد، تعوزه الأمة آنئذ (عهد عمر)، إلى لين وهوادة (عهد عثمان)، هو الأمر الحاصل، الذي أدى في نهاية الأمر ـ دون خوض في تفاصيل معروفة ـ إلى كارثة استشهاد ذي النورين على يد أعدائه، ومن أرادوا الاصطياد في الماء العكر.
ويبرز دور معاوية مع مقدم علىٍّ رضي الله عنهما. لقد جاء علىٍّ إلى الخلافة بعد مقتل عثمان شهيداً، ولم يكن راغباً في الخلافة، "فقد برهنت مشاورات مجلس السّنة الذي انعقد عقب وفاة عمر، على أنه لو لم يلِ عثمان الخلافة لتعيّن لها عليٌّ، وهكذا اتجه الثائرون، ومعظم من بقي من أهل الحل والعقد بالمدينة إلى عليّ يقولون (لابد للناس من إمام، فأجابهم: (لا حاجة لي في أمركم. فمن اخترتم رضيت به)، ولكنهم ألحُّوا عليه، فقال: (لأن أكون وزيراً خيرٌ من أنْ أكون أميراً). فتوجهوا إلى طلحة والزبير، ولكل منهما أنصار من بين الثائرين، لكنهما أدركا أن لا طاقة لهما بها فرفضا. وعاد القوم إلى عليّ يفرضون عليه الخلافة، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بدر، أين طلحة والزبير وسعد؟ فبايع طلحة والزبير، وتوقف سعد حتى يبايع الناس".
وهكذا يتولى عليّ والأمة على شفا بركان، ليواجه مشكلتين: الأولى تتمثل في طلب الأمة ـ بين مخلصٍ ومتربص حقود ـ الثأر لدم الخليفة المقتول غدراً الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه، والأخرى تتمثل في حالة الفوضى التي عمت أرجاء الأمصار قلقاً واضطراباً، وكان المسؤول الأول عنها أطماع أمراء عينهم خليفة ليِّن تخفف في حسابهم. إنهما "مشكلتان: مشكلة رجل رفيع المقام، ومشكلة دولة تتهددها الفتنة، ويعوزها النظام". فكيف واجه عليٌّ المشكلتين؟
لقد آثر عليٌّ رضي الله عنه أن يبدأ بمشكلة الدولة، لأنه رأى أن سبب الثورة عقب مقتل عثمان كان سوء استغلال الولاة لمناصبهم، وتساهل عثمان، رضي الله عنه، في الضرب على أيديهم، فقد عزل هؤلاء الولاة، مستبدلاً بهم غيرهم، ممن وثق في أنهم سيعينونه في سياسته الإصلاحية. بيد أن هذه المسألة أسهمت في تعقيد الأمور، وبخاصة أن عدداً من الصحابة، رضوان الله عليهم، عارضوه في أمر عزل ولاة عثمان، ومن بين هؤلاء كان الصحابي الجليل عبدالله بن عباس، رضي الله عنه. ذلك أن هذه الخطوة كانت تعني إخماد الثورة بإثارة أخرى، والتغلب على الفتنة للدخول في غيرها. وأصر علي على رأيه، فأشير عليه ألا يغاضب معاوية على الأقل، فإن لامه أحد في الإبقاء عليه كان في طوقه أن يقول: إن عمر ولاه الشام، لكن طبيعة علي كانت لا تعرف سياسة أنصاف الحلول، ولا تعترف بأسلوب المداورة. وعزل معاوية لتحدث طامة كبرى في تاريخ الأمة.
لقد خرج معاوية على طاعة الخليفة الشرعي، رافضاً قرار عزله، وزاد على ذلك أمراً خطيراً، إثارة للفتنة، حين شحن العامة والرعية ضد عليّ باتهامه بإيواء قتلة عثمان، ليضعه أمامهم موضع المساءَلة لتقصيره في الأخذ بثأره، ولم يكن أمام علي الخليفة من بدٍّ سوى أن يأمر بتجهيز الجيش لإخضاع هذا الثائر، "لكن التطورات تلاحقت في سرعة، ذلك أن ثوار مكة خرجوا في اتجاه البصرة، زاعمين لأنفسهم الحق الكامل في تتبع قتلة عثمان ما دام الخليفة ولي الأمر، قد تهاون في القيام بهذا الواجب، وكان لخروجهم هذا أثره الكبير في موقف عليّ، الذي اضطر إلى إعادة تقدير الموقف، فهناك بالشام والٍ عاصٍ، رفض الخضوع للسلطة المركزية، وإن لم يرفع في وجهها سلاحه، بينما تتجه إلى العراق جماعة ثائرة تحمل السلاح وتهدد أهل البصرة.
وكانت النتيجة المؤسفة التي نعرفها جميعاً وقعة الجمل التي كان ضحاياها آلاف من الصحابة وحملة القرآن، وعلى رأسهم القتيلان الشهيدان طلحة الخير بن عبدالله، والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ كان من المؤسف أيضاً أن يُعقر جمل عائشة أم المؤمنين، فوقعت أسيرة في أيدي رجال عليّ، وقتل طلحة، وأسرع الزبير في طريق المدينة هارباً من المعركة فاغتاله بعض الرجال قبل أن يذهب بعيداً، وانتهى القتال، وانفض الجمع، وخلا الميدان، ودخلت عائشة البصرة... وسأل علي عائشة في تبجيل واحترام: (أترحلين إلى المدينة؟)، فقالت: (أرتحل). فجهزها، وسيّر معها أولاده لحمايتها مسيرة يوم، وخرج هو بنفسه لتوديعها.
وحدث هدوء نسبي، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، فبعد أن فرغ علي رضي الله عنه من موقعة الجمل، ووضعت الحرب، التي انتهت بمقتل الكثير من الصحابة أوزارها، فرغ علي من أمر البصرة متجهاً إلى الشام، وقد حاول علي كرم الله وجهه، كشأن العقلاء المتذرعين بدينهم، أن ينصح للخارجين مرسلاً سفراءه، ولكن هيهات، وهم يرون كبيرهم معاوية يصد عنهم وعن نصائحهم، وقد تملكه الغرور الأموي، وهو الصحابي الجليل. فما دار من حديث بين رسل علي ومعاوية قولهم: "إنّ صاحبنا من قد عرفت، وعرف المسلمون فضلاً، فاتق الله يا معاوية، ولا تخالفه، فإنا والله ما رأينا رجلاً قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فقال معاوية: إنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبك فإنا لا نراها. إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا، ثم هو يزعم أنه لم يقتله. أرأيتم قتلة أصحابنا، ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم فليدفعهم إِلينا فلنقتلهم به..".
لم تصلح كل رسل علي في إثناء معاوية عن عزمه، خروجاً على الخلافة الشرعية، ونشب القتال بين الفرقاء، ولما أحس معاوية بالهزيمة تدركه، هو وجنده، تفتق ذهن عمرو بن العاص ـ وكان من دهاة العرب ـ بفكرة التحكيم، فكانت فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح، التي كانت نكبة أخرى، انقسمت الأمة حيالها إلى فرق، بين خوارج وعلويين وشيعة. إن فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح كانت "تظاهراً بالرغبة في تحكيم كتاب الله لفض النزاع وحقن الدماء. ورفض علي المبدأ في أول الأمر، فقد أدرك أن الأمر خداع، وأن جيشه قاب قوسين من نصر حاسم، لكن كثرة كثيرة من رجاله أصروا على الاستجابة للتحكيم، واضطر علي أمام انقسام جماعته، إلى إنقاذ وحدتهم بالخضوع، وقبول التحكيم. ومنذ هذه اللحظة أفلت الزمام من علي، وتحققت نظرته في الناس، تلك النظرة التي أشار إليها أول عهده في قوله: (إن الناس في هذا الأمر ـ إن حُرك ـ على أمور. فرقة ترى ما ترون، وفرقة ما لا ترون. وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك).
وانقسمت الأمة حيال التحكيم، الذي كان بلا ريب في مصلحة معاوية، الذي عاد إلى الشام منتظراً نتيجته، تسود علاقته الوطيدة بجنده، بينما عاد علي بجند منقسمين مختلفين، وصلت إلى حد انقسام طائفة عليه، اتهموه بالكفر لخروجه عن صحيح الدين بقبوله التحكيم، وهم من عُرفوا فيما بعد بالخوارج، وكانوا دوماً في التاريخ شوكة في جنب الخلفاء، ومنهم من تشيع لعلي في المقابل، وهم من عرفوا في التاريخ "بالشيعة".
وكان رأس المحكّمين صحابيين، هما عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري، ولكل موقف وهوىً، إذ كان عمرو بن العاص صاحباً مقرباً لمعاوية، وكانت النتيجة أن أعلن أبو موسى الأشعري خلع الرجلين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وترك الأمر برمته إلى الأمة لتختار خليفتها ممن تشاء، بينما ثبت عمرو صاحبه معاوية، الذي صقلته تجارب الحرب، يسانده جيش الشام القوي، ذو الولاء المطلق له.
ازداد الأمر سوءاً حيال موقف علي الخليفة الشرعي، وتسارعت الأحداث، ليفقد ولاية مصر، بعد أن عزل واليه عليها قيس بن سعد؛ فكان ضياعها خسارة كبرى لرجال على رضي الله عنه؛ ذلك أنه فقد موقعاً إستراتيجياً يستطيع منه مناهضة أهل الشام، وبها ضمن معاوية ألا تجتمع عليه الجبهتان: جبهة مصر، وأهل العراق. رأينا علياً يعد جيشاً "بلغت عدته أربعين ألفاً للقيام بخطوة حاسمة أخيرة، تضع حداً للصراع وتقضي على الثائر، وتجمع الأمة مرة أخرى تحت راية الوحدة والدين. وحال بين علي وتحقيق هدفه طعنة غادرة سددها عبدالرحمن بن ملجم إلى خليفة المسلمين، في فجر الخامس عشر من رمضان للسنة الأربعين من الهجرة، وتوفي، رضي الله عنه، بعد يومين، فوضعت وفاته، بصورة عملية، نهاية مؤسفة لعهد الراشدين".
بعد ذلك بايعت جماعة من أهل العراق ـ أصحاب الولاء الهش آنئذٍ ـ الحسن بن علي، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي استقرأ بذكاء المؤمن التقي حال الأمة، وما آلت إليه ـ مع البيت الأموي ـ من انكسار يصعب لأمه، "وتبين عجزه عن مواصلة الكفاح استناداً إلى هذا التجمع المنهار، فخلع نفسه من الخلافة وطوّفها معاوية، وسلم إليه الكوفة التي كانت عاصمة الدولة منذ انتقل إليها أبوه، ودخلها معاوية أواخر ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين للهجرة، واستسلمت الأمة، ولم تجد بديلاً لمبايعة معاوية بالخلافة، وكانت نهاية عهد، وبداية عهد". عهد الشورى مودعاً بعهد الملك العضود بين مَنْ هو تقي وأقل تقوى.
وخلاصة القول كما تخبرنا بعض كتب التاريخ المعاصر أن معاوية "لم ينتخب للخلافة انتخاباً عاماً، يعني من جميع أهل الحل والعقد من المسلمين، وإنما انتخبه أهل الشام للخلافة، بعد صدور حكم الحكمين، ولا يعده التاريخ بذلك خليفة، وبعد مقتل علي بن أبي طالب، بايع اتباعه ابنه الحسن بن علي، الذي رأى أن يتنازل عن الخلافة، ويسلم الأمر لمعاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين، فبايعه بالخلافة في ربيع الأول سنة 41هـ. وعلى ذلك فبيعة معاوية اختيار من أهل الشام، وغلبة وقهر لأهل العراق، وإن تم التسليم له من جميع الأمة إلا الخوارج.
وسننتقل في الصفحات القادمة من البحث إلى رصد أهم منجزات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على المستوى الداخلي، ثم على المستوى الخارجي، ليقف القارئ الكريم على أهم منجزاته خدمة لتاريخنا الإسلامي.
إنجازاته التاريخية داخلياً
امتاز معاوية بصفتين جعلتاه يملك قلوب كثير من الناس، يكاد يجمع عليهما المؤرخون، وهما صفتا الحلم والدهاء، مكّنا له من أن يكون خليفة قوياً مهاباً، وقد حار كثير من المستشرقين المؤرخين في تفسير هاتين الصفتين، ويهمنا في هذا الصدد أن نذكر رأي اثنين مهمين منهم وهما: فيليب حِتيِّ، وهنري لامانس.
يقدم فيليب حتيِّ تفسيراً للحلم بعامة في ضوء إسقاطه على معاوية، فيرى أن الحلم هو "المقدرة على أن لا يلجأ الإنسان إلى العنف إلا حين لا يرى محيصاً عنه، وأن ينزع في الأحوال الأخرى إلى اللين والمسالمة ـ شدة في غير عنف ولين في غير ضعف ـ فكان يقرن لينه بالحزم؛ فينتزع بذلك خصمه سلاحه، ويُخجل معارضه، وكان يملك نفسه، ويكظم غيظه، ومن هنا استطاع أن يكون دائماً سيد كل موقف.
أما هنري لامانس ـ فيما يرى د. العقيلي الذي ينقل رأيه عنه ـ : فهو لم يبتعد كثيراً في تفسيره لهذه الصفة عن سابقيه. ولكنه في قرارة نفسه ينفي عن معاوية صفة الحلم، ويسوق د. العقيلي قوله على النحو التالي: "إن التحليل لحلم معاوية يبين أنه اتخذ من هذه الظاهرة مبدأ سياسياً، فقد استطاع بليونته أن يجرد كثيراً من خصومه من سلاحهم، كذلك استطاع بأفكاره المتطورة أن يحوز على رضى وثقة الآخرين، وبالتالي يستسلمون له. فقد كان يرى دائماً أن الحرب تكلفه كثيراً مقارنة بالكرم والسماحة. ومثل هذا الحلم لا يكون بأي حال من فضائل المسلم.
والأمثلة التي تناقلتها كتب التاريخ عن حلم معاوية مواقف وقضايا كثيرة، حتى إن كتب الأدب والبلاغة تناقلت بعضها وتناولتها بتحليل فكري. فعن أبعاد سياسية معاوية الداخلية يورد ابن الأثير قوله: "كان معاوية يعطي المقارب، ويداري المباعد ويلطف به، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه.
ويورد البلاذري رواية مفادها أن يزيد بن معاوية قال لوالده: "لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يُعد ضعفاً وجبناً". فقال معاوية: "أي بنيّ إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة".
لقد فقه معاوية رضي الله عنه مبكراً اللعبة السياسية التي تحركها النوازع القبلية في عصره، فعمل على توازن القوى، فلم يقعده حبه لأهل الشام ومن ثم إخلاصهم له، عن النظر بعين الرضا إلى جوانب أخرى من الدولة، بعد أن أمن جبهة مصر، متخذاً من دمشق عاصمة للدولة الأموية التي بدأت قوية مرهوبة الجانب. "فقد أمضى معاوية رضي الله عنه هناك قرابة عشرين عاماً أميراً على بلاد الشام، كان خلالها يتمتع بشعبية كبيرة بينهم. ولعل معاوية رضي الله عنه كذلك كان يشعر أن استمرار دولة الأمويين يعتمد في درجة كبيرة على مدى المساعدة التي يقدمها إليه أهل الشام خاصة.
وعن مسألة حفظ التوازن التي أولاها معاوية جانباً كبيراً من اهتمامه يقول د. العقيلي بحق: "حاول جهده من البداية أن يعمل على حفظ التوازن بين رجالات القبائل العربية المختلفة في بلاد الشام، وعلى وجه الخصوص القبائل اليمانية والقبائل القيسية".
وتتضح النجاحات التي حققها معاوية داخلياً، من عدة مناح، أولها كفاءته في اختياره لعماله، فقد "اصطفاهم من ذوي الكفاية والعقل وحسن التدبير له، وآزروه حتى سارت شؤون دولته على خير الوجوه، وكان من هؤلاء الأكفاء المخلصين عمرو بن العاص في مصر، والمغيرة بن شعبة في الكوفة، وزياد بن أبيه في البصرة، وقد نجحت سياسة معاوية داخل الدولة... فقد نظم البريد بطريقة لم تعرف قبله، فجعل له محطات تقف فيها الخيول المجهزة، حتى إذا وصل حامل البريد على فرس أجهدها المسير، تلقفه رجل غيره، فنقله على فرس مستعدة، وهكذا يصل البريد إلى غايته بسرعة ونظام. وابتكر ديوان الخاتم لتسجيل توقيعات الخليفة وربطها بخيط، وختمها بشمع، لتبقى لها هيبتها وجلالها، وتصبح في مأمن من عبث العابثين".
وليس أدل على دهاء معاوية وحلمه معاً، مما ساقه واحد من أهم الأدباء، أو مؤرخي الأدب القدماء، هو ابن طباطبا العلوي في كتابه الفخري حيث قال في حقه شاهداً له بحق: "كان معاوية عاقلاً في دنياه، لبيباً عالماً حليماً ملكاً قوياً، جيد السياسة، حسن التدبير لأمور الدنيا، حكيماً فصيحاً بليغاً، يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلا أن الحلم كان أغلب عليه، وكان كريماً باذلاً للمال، محباً للرياسة، شغوفاً بها، وكان يكرم أشراف رعيته كثيراً، فلا يزال أشراف قريش مثل: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن جعفر، وعبدالله بن عمر، وأبان بن عثمان بن عفان، وناس من آل أبي طالب، يفدون عليه بدمشق، فيكرم مثواهم، ويقضي حوائجهم، ولا يزالون يحدثونه أغلظ الحديث، ويجابهونه أقبح الجبه، وهو يداعبهم تارة، ويغافل عنهم أخرى، ولا يعيدهم إلا بالجوائز الثمينة، والصلات الجمة".
ثمة مقولات مهمة صدرت من فم معاوية نفسه، يمكن أن تكون مفتاحاً مهماً للكشف عن شخصيته الحليمة ودهائه النادر أوردها البلاذري، وذلك حين ينقل عنه قوله: "لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته".
إنه صنف نادر يُدْرَس في تاريخ الحكام، فآخر ما يلجأ إليه هو السيف، وهو أول ما يلجأ إليه كثيرون غيره من الحكام، فالمال عنده هين، بجانب إهانة اللسان، واللسان أخف وطأة في العقاب حين يكفيه عن السوط، والسوط أخف إيلاماً في العقاب من سيف، لا يلجأ إليه إلا عند المجاوزة.
وتتضح سياسة معاوية وذكاؤه في حلمه على مستوى مخاطبته لولاته، فمما تورده كتب البلاغة من فصاحة القول والفكر معاً، ويعدونه من مواضع الخبر البلاغي الذي يلقي للمتلقي خالي الذهن، قول معاوية لأحد عماله: "لا ينبغي لنا أن نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلين جميعاً فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتد جميعاً فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة".
ومن الصفات الناصعة في تاريخ معاوية رضي الله عنه، من حيث إنجازاته الداخلية، اختياره لقضاته، ليظل القضاء في الإسلام في عهده مفخرة بحق للعدل والنزاهة، إذ "قد تركه معاوية رضي الله عنه لجماعة من أفاضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الفقهاء من الصحابة والتابعين، حتى يستطيع هؤلاء توجيه الناس، وتعليمهم أمور دينهم، ففي دمشق أثبت معاوية أبا الدرداء عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري، مقرئ أهل دمشق وعالمهم، على القضاء، فظل في منصبه حتى وافته المنية في سنة 32هـ... وفي فلسطين كان عبادة بن الصامت أول من ولي أمر القضاء هناك. أما في البصرة، فتولى القضاء كل من عمران بن الحسين الخزاعي، وعبدالله بن فضالة الليثي، وعاصم بن فضالة الليثي، وزرارة بن أوفى الجرشي، وعمير بن يثربي الضبي، وفي الكوفة؛ تولى قضاءها شريح بن الحارث الكندي...".
ومن الإنجازات والسياسيات الداخلية التي تذكر لمعاوية فتشكر، حسن معاملته لأهل الكتاب، وبخاصة مواقفه مع النصارى الذين سمح لهم ببناء كنائسهم، وترميم ما تهدم منها. وكما كانت سياسة التسامح مع الرعايا غير المسلمين هي الطابع المميز لفترة خلافة معاوية رضي الله عنه، كذلك نرى سياسة التعاطف والاهتمام المتزايد، وحسن المعاملة تجاه الموالي من المميزات الأخرى في عصر معاوية (وما تلاه من عهود)، فنجد أن معاوية استعان بكثير من الموالي في إدارة بعض شؤون الدولة: فعين مولاه عبدالله بن دراج على خراج الكوفة ومعونتها، في ولاية المغيرة بن شعبة (41-50هـ). وكان وردان مولاه، على خراج مصر في ولاية عتبة بن أبي سفيان، وكان على حرسه رجل من الموالي يُقال له: المختار... وكان على حجابه سعد مولاه. وكان يلي أمواله بالحجاز أيضاً. وهكذا كان عهده وإنجازاته الداخلية أكثر من أن تحصيها الأمثلة والمواقف.
إنجازاته على المستوى الخارجي
لم تكن انجازات معاوية الخارجية بأقل من مستواها الداخلي في بعدها الحضاري، الذي شهد له به التاريخ، فإليه يرجع فضل درء خطر الرومان عن حياض الأمة الإسلامية، "فقد تصدى للرومان الذين أغاروا على حدود الدولة الإسلامية الشمالية الغربية، فجيّش الجيوش سنة 42هـ، وانتصر عليهم براً وبحراً في مواقع كثيرة، وبنى أسطولاً؛ بلغت عدته 1700 سفينة، استولى بها على قبرص ورودس وغيرها من جزر الروم. بل استطاع أن يصل إلى أسوار القسطنطينية، كما أرسل عقبة بن نافع سنة 50هـ إلى الشمال الإفريقي في عشرة آلاف جندي، فأعاد فتح أفريقية، ونشر الإسلام في ربوعها، وأدخل من أسلم من البربر في عداد جيشه.
ومن الحق أن نذكر أن جهاد معاوية رضي الله عنه ضد الإمبراطورية البيزنطية كان موصولاً من قبل توليه خلافة المسلمين، وازداد نصراً وطموحاً حين ولي أمرهم. فقبل خلافته لا ينسى له التاريخ أنه كان مهندساً وقائداً لموقعة "ذات السواري" الشهيرة، التي تُعد من أهم المعارك البحرية في تاريخنا الإسلامي المجيد في وقت مبكر من تاريخ الأمة، بين الأسطول الإسلامي والأسطول البيزنطي. "وقد عُرفت تلك المعركة بوقعة ذات السواري، نظراً لكثرة سواري السفن المشتركة من كلا الطرفين في هذه المعركة، فتشير بعض الروايات إلى أن الأسطول الإسلامي كان مكوناً من مائتي سفينة، في مقابل خمسمائة سفينة من الجانب البيزنطي... وكان الأسطول البيزنطي بقيادة الإمبراطور قسطنطين الثاني. أما الأسطول الإسلامي فقد كان بقيادة عبدالله بن سعد بن أبي السرح بمساعدة بُسر بن أرطأة الفهري قائد وحدات المشاة الإسلامية.
وقد كان لوقعة ذات السواري نتائج جد إيجابية تحسب لمعاوية خليفة المسلمين، ربما جاءت ـ وغيرها من إنجازاته ـ ناطقة بما يمحو ما يراه البعض اقترافاً لذنوب في حق آل بيت النبي والأمة الإسلامية. "فأما عن النتائج المباشرة لمعركة ذات السواري، فتتمثل في أنها أنهت عصر السيادة البيزنطية في شرق البحر الأبيض المتوسط، فاطمأن المسلمون إلى أن هجمات البيزنطيين المفاجئة على شواطئهم قد أصبحت بعيدة الاحتمال. فنعموا بالأمان والهدوء على طول الساحل الإسلامي. كما أن نتيجتها تتمثل في أن الطريق نحو القسطنطينية قد أصبح ممهداً أمام القوات الإسلامية؛ لتواصل زحفها لفتح المدينة.
ولم يكف معاوية عن هجومه على الروم محاولاً فتح القسطنطينية بعد توليه الخلافة، فقد أرسل الجيوش تلو الجيوش، بين انتصارات وانكسارات، تكشف عن مقاتل شجاع باسل وراءه جند صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ولكن جهوده لم تفلح في فتحها مع كثرة المعارك التي خاضها، واعتورتها ظروف خارجة عن إرادته في فتحها، منها: مرض جنوده مرة، وصعوبة موقعها الجغرافي مرات، لكن "على أي حال، فلا بد من القول بأن الإنشاءات والمجهودات التي قام بها معاوية رضي الله عنه في سبيل الوصول إلى القسطنطينية؛ وإن كانت لم تثمر خلال حياته؛ فإنها لعبت دوراً أساسياً في حفز من جاءوا بعده من الخلفاء لأن يكملوا المسيرة التي بدأها.
ولقد كان مسعى معاوية رضي الله عنه للفتوحات الإسلامية في شمال إفريقية ووسط آسيا، محل اهتمامه، وهو يرى كل الخلفاء الراشدين من قبله يولون ذلك أهمية كبرى. "فلقد كان الزحف الإسلامي باتجاه شمال أفريقيا (المغرب) ضرورياً لدعم مسيرة الفتح، ونشر الإسلام وبالدرجة الأولى، ثم لأجل تأمين حدود مصر الغربية ضد أي هجوم بريًّ قد يقوم به البيزنطيون، الذين كانوا يسيطرون على الشمال الإفريقي في ذلك الوقت.
وقد كان البطلان في فتوحات إفريقية هما عمرو بن العاص، وابن خالته عقبة بن نافع رضي الله عنهما، منذ عهد الخلفاء الراشدين، وما إن ولي معاوية رضي الله عنه أمر الخلافة؛ حتى أمر عمرو بن العاص، واليه على مصر، بالغزو في الشمال الإفريقي، ومناهضة البيزنطيين هناك. فرتب عمرو بن العاص قواته، ووضعها تحت إمرة عقبة بن نافع الفهري. ومن ثم انطلق عقبة من قاعدته في برقة على لوبية ومراقية، وتمكن من فتحها، فدانت له قبائل من لواتة وهوارة وزناتة البربرية، وتمكن عقبة كذلك من فتح مدينة غدامس في سنة 42هـ/622م.
واستمر عقبة من نصر إلى نصر في مجاهل إفريقية، يفتح المزيد من المدن، ولم يوقفه آنئذٍ مؤقتاً إلا وفاة صديقه وابن خالته عمرو بن العاص، فرجع عائداً إلى مصر متعاوناً مع ابنه عبدالله بن عمرو بن العاص، الذي تولى أمر مصر مؤقتاً بعد أبيه، قبل أن تؤول إلى عتبة بن أبي سفيان، الذي عزله معاوية، رضي الله عنه، بعد ذلك مولياً عقبة بن عامر الجهني.
ولم يكن معاوية رضي الله عنه لينسى أن يكافئ رجاله المخلصين. ففي سنة 50هـ/670م اختار رضي الله عنه عقبة بن نافع الفهري والياً على الشمال الإفريقي كله.
وتعد الفتوحات الإسلامية في أواسط آسيا في عهد معاوية رضي الله عنه مأثرة ومفخرة لتاريخنا الإسلامي، وتتويجاً لعهده. ولو تفرغنا لعدها مع غيرها لامتلأت صفحات هذا البحث؛ ولكن يكفي أن نشير إلى فتوحات بعينها قام بها رجال من أخلص رجالات التاريخ، وأقدرهم على حسم المواقف والمعارك.
فمما يكشف عن هيبة الدولة الإسلامية في عهد معاوية بن أبي سفيان أن "عهد عبدالله بن عامر بن كُريز والي معاوية على البصرة، وما يتبعها في خراسان وسجستان إلى قيس بن الهيثم السُلمي، بقيادة حامية خراسان سنة 41هـ/661م. وهناك واجه قيس ثورة باذغيس، وهراة، وبُوشنج، وبلخ، فتحرك قيس لمواجهتهم، وسأله أهل بلخ الصلح، ومراجعة الطاعة، فصالحهم قيس.
وكم كان معاوية موفقاً في فراسته، من حيث اختياره لرجال المهمات الصعبة، ففي سنة 42 : 43هـ عين ابن عامر عبدالرحمن سمرة بن حبيب والياً على سجستان، واستطاع هذا القائد المظفر أن يتمكن من فتح كل المدن التي جاورتها. وكما كافأ معاوية قائده العظيم عقبة بن نافع على فتوحاته في شمال إفريقية، كافأ ابن عامر؛ إذ جعله والياً على إقليم سجستان الذي جعله ولاية مستقلة مكافأة على تحقيقه هذه الفتوحات.
هذا هو معاوية الذي قلنا في أول بحثنا إنه شخصية؛ يمكن أن يختلف حولها، ولكن لا يختلف بأي حال معها. لأن ما قدمه مقابل ما أسقطه له التاريخ، كثير، جزاء ما قدمه للإسلام من فتوحات، جعلت الأمة الإسلامية في عهده مرهوبة الجانب، ولم يكن ذلك بغريب من قبل شخصية حليمة كأحكم ما يكون الحلم، وداهية كأذكى ما يكون دهاء السياسي المحنك. أليس هو القائل: "لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها".
التعليقات على الموضوع