بحث كامل عن الطوفان وسفينة نوح




وردت قصة طوفان سيدنا نوح الشهيرة في الكتب السماوية الثلاث التوراة و الإنجيل و القرآن الكريم. حيث ذكرت الكتب السماوية جميعها قصة طوفان عظيم حدث لقوم سيدنا نوح عليه السلام وأدى إلى إغراق الكفار والعاصين من البشر عدا المؤمنين الذين ركبوا مع نوح في سفينة النجاة، تلك السفينة التي صنعها نوح بنفسه وبوحي من الله تعالى وتحت رعايته.
وكان الطوفان طبقا للقرآن الكريم بسبب كفر الناس بالله تعالى، واعتناقهم عبادة الأصنام، ورفضهم عبادة التوحيد. وكان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن التاسع عشر أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان لكن في عام 1853 عثر على نسخة من رواية الطوفان البابلية . وفي الفترة بين1889 و1990م اكتشفت بعثة أثرية أمريكية اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان في مدينة نيبور(نفر) بالعراق. ويبدو من طابع الكتابة التي كتبت بها القصة السومرية أنها تعود إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.

وجدير بالذكر أنه تقريباً لم تخل ذاكرة من الشعوب من قصة الطوفان؛ حيث أننا نجد تقريبا أكثر من 500 أسطورة حول الطوفان تنحدر من ذاكرة شعوب مختلفة تتحدث عن هذا الحدث ا لعالمي مثل : البابليون، السومريون، الأشوريون، الفرس، اليونان، البرازيل، الهند، الصين، تايلاند، وحتى في استراليا عند السكان الأصليين، ومعظم جزر المحيط الهادي، وحتى بين الهنود الحمر السكان الأصليين للأمريكيتين، وأوربا وأفريقيا .وجميع قصص الطوفان التي وردت سواء في الديانات السماوية أو في الأساطير العراقية القديمة أو غيرها تتفق أغلبها على أن الإهلاك تم بطغيان الماء، وأن نجاة الناجين قد تمت في سفينة رست على قمة جبل. وجميع الكتب السماوية اتفقت على حدوث الطوفان في عهد سيدنا نوح عليه السلام.
وإن اختلفت في بعض التفاصيل؛ فقد وردت قصة الطوفان في القرآن الكريم أنه بعد أن أنزل الله آدم من الجنة مكث زمناً ثم مات، وبدأ نسله يعبدون الأصنام والتماثيل فجاء نوح عليه السلام ومكث فيهم 950 عامًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده .وتتفق الكتب السماوية على أن الرسول الذي بعثه الله في فترة الطوفان هو سيدنا نوح عليه السلام. وكذلك تتفق جميع قصص الطوفان سواء السماوية أو الوضعية على أن الطوفان أغرق البشر الأشرار، وتتفق كذلك على وجود شخصية طيبة تصنع سفينة تنقذ فيها الطيبين، وتتفق على استواء السفينة على قمة جبل.
وردت تفسيرات عديدة في أسباب تسمية سيدنا نوح بهذا الاسم، وهي تفسيرات كثيرة منها ما هو مستمد من التوراة وشطحاتها، وبعضها من حذلقة المفسرين: فقال بعض المفسرين أنه سُمي نوحا لكثرة نوحه وبكائه من خشية الله. وأخرج ابن أبي حاتم والشيخ وأبو نعيم وابن عساكر عن نعيم الرقاشي قال: إنما سمي نوح عليه السلام لكثرة ما ناح على نفسه، وقد وورد ذلك في (تفسير القرطبي)، و(فتح القدير) وغيرهما. ويذكر آخرون أنه سُمي نوح من كثرة نوحه، وشدة حزنه وبكائه على قومه الذين مكث فيهم طيلة سنوات عمره المديد يدعوهم لعبادة الله ولكن لم يؤمن معه إلا قليل منهم.
وهناك تفسير عجيب في سبب تسميته نوح وهو أنه بعد انتهاء الطوفان نزل المؤمنون من السفينة وانهمكوا في أعمالهم وشؤونهم الحياتية المختلفة، وكانت مهنة نوح بعد الطوفان ـ طبقا لهذا التفسيرـ هي صنع الجرار الفخارية وبيعها للناس، وذات يوم جاءه مَلَك في هيئة إنسان واشترى من نوح عددا ً من الأواني وأخذ يكسرها ونوح ينظر إليه، وكلما كان يحطم جرّه منها كان نوح يغضب ويغتم، ولكن نوح لم يطق الصبر على رؤية تحطيم تلك الجِرار فصاح في ذلك الرجل المَلَك قائلاً: ماذا تصنع يا رجل؟! لماذا تكسر الجرار التي صنعتها بيدي؟ فأجابه الرجل المَلَك: لقد اشتريتها منك فصارت ملكاً لي وأستطيع أن أتصرف بها كيفما أشاء، فقال نوح عليه السلام: صحيح أنك اشتريتها مني، ولكني بذلت جهدا شاقاً وأتعبت نفسي حتى صنعتها وبقيت أحبها حتى بعد أن اشتريتَها أنتَ مني ولستُ أرضى بإتلاف ثمار أتعابي ونتائج جهودي.
فأجابه الرجل المَلَك: إنك لم تخلق الجرار بل صنعتها وحسب ولكنك- مع ذلك- لا تطيق رؤية منظر تحطيمها، فكيف دعوتَ الله بأن يهلك مخلوقاته كلها أجمعين؟!، فأخذ نوح يبكي وينوح نوحاً شديداً حتى أسماه الناس(نوح)، وهذا تفسير في رأيي لا يليق بالذات الإلهية لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل دعوة بالباطل ولكنه قبل دعوة سيدنا نوح على قومه بعدما رأى منهم العناد والكبر والطغيان، كما لا يليق برب العزة بعد أن يفعل شيء يندم عليه فيرسل مَلَكاً يعاتب به سيدنا نوح على دعاءه على قومه، كما أن سيدنا نوح من أولي العزم من الرسل الملهمين من الله تعالى فهو عندما دعا على قومه بالهلاك ذلك لأنه دعاهم سنوات طويلة وتيقن من عدم صلاحهم، فكيف يندم بعد ذلك على دعوته على قومه؟!
بل هناك روايات مخزية في تفسير اسم نوح لا تليق بذلك النبي والرسول العظيم ولم ترد في القرآن ولا في السنة النبوية؛ فهناك رواية تقول أن الاسم الحقيقي لسيدنا نوح هو(عبد الغفار) لكنه كان يسير في الشارع ذات يوم فوجد كلباً مصابا بالجرب، فقال له نوح :”يا أجرب” فنزل أمين الوحي سيدنا جبريل على سيدنا نوح ـ طبقا لهذه الرواية ـ وقال له: “السلام يقرئك السلام ويقول لك أتعيب الخالق أم تعيب المخلوق؟) فظل نوح يبكي مائة عام حزنا ً حتى ابيضت عيناه، فنزل عليه جبريل عليه السلام وقال له الآن قد غفر الله لك، ولما كان الناس يمرون عليه وهو يبكي بشدة وينوح في البكاء فقد لقبه الناس (نوح).
وقال الكسائي: كان اسمه “عبد الغفار” أو “يشكر” وأن سبب تسميته نوحا أنه رأى كلبا ً له أربعة عيون فقال نوح أن هذا الكلب شنيع، فقال له الكلب يا عبد الغفار أتعيب النقش أم النقّاش؟ فإن كان العيب على النقش فإن الأمر لو كان لي لما اخترت أن أكون كلباً، وإن كان العيب على النقّاش فهو لا يلحقه عيب لأنه يفعل ما يشاء، فكان كلما ذكر ذلك يبكي وينوح على خطيئته وذنبه ولذلك سمي نوح. وزاد الرواة أن نوح اسم عربي وأن اسمه الحقيقي عبد الغفار وأنه نظرا لخطيئة نوح التي ارتكبها في تقززه من منظر الكلب القبيح الشكل وتقصيره في طاعة ربه فقد ظل يبكي وينوح كثيرا حتى أوحى الله إليه: “يا نوح كم تنوح؟” فقد سمي نوحا بدل عبد الغفار. وبالطبع هذه التفسيرات من وجهة نظري هي افتراءات وتخاريف تجانب الصواب بل هي مصدر للسخرية والاشمئزاز، ولا تليق بنبي كريم من أولي العزم، كما أن هذه التفسيرات لم ترد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وإنما هي من نسج خيال المفسرين، وبعضها من الإسرائيليات.
فليس من المعقول أن سيدنا نوح عليه السلام يترك دعوته ويلتفت لمخاطبة الكلام في الشوارع ويعيبها بما فيها، كما أن هذا سلوك لا يليق بنبي ورسول من أولي العزم مثل سيدنا نوح عليه السلام. كما أنني أتساءل هل عاش هؤلاء المفسرون مع سيدنا نوح حتى يعرفون عنه هذه القصص؟! ومن أين أتوا بها وما مصدرهم؟ وما دلائلهم على ذلك رغم عدم ورود ذلك لا في القرآن ولا في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام؟!!! وتأتي تفسيرات الموسوعة الكاثوليكية أيضا على نفس المنوال في تفسير اسم نوح؛ فتدعي الموسوعة الكاثوليكية أن والد نوح لاميخ أطلق عليه هذا الاسم لقناعته بأن نوح سوف يخلص البشرية من العقوبة التي أنزلها الخالق الأعظم على بني آدم، ويوصل الإنسانية إلى حالة من الطمأنينة والاستراحة.وبالطبع هذا تفسير أحمق لأن والد سيدنا نوح لم يكن يعلم الغيب ولم يكن نبيا فيكشف الله له عما سيكون من أمر نوح عليه السلام ومن أمر البشرية والطوفان. كما أن الاسم (نوح) ليس اسما عربيا فنفسره بالنواح والبكاء وإنما هو اسم عبري كما سنرى.
على أن هناك رأي يرى أن كلمة نوح تعني “استراحة” باللغة العبرية و الآرامية، وهو رأي وجيه من وجهة نظري حيث يقول هذا الرأي أن (نوح) في القرآن الكريم هي تعريب للاسم العبري (نوح) الذي ورد في التوراة، وأنه ينطق في العبرية ليس مداً بالواو وإنما مداً بالضم بعد فتح (نوـ وح)، ومن هنا كانت كتابتها بالإنجليزي (Noah) وهي في العبرية مشتقة من الفعل العبري ناح / ينوح والمشتقة على المصدر أو اسم الفعل، فهي (نوح)، (نوـ وح) ومعاني هذا الفعل في العبرية هي:البقاء والبقيا والمكوث والدعة والسكون والكف والتوقف والراحة والاسترواح والتنعم، وهذا الفعل في العبرية والآرامية سواء.
ومن المعروف لغويا أن الخاء العربي يُقلب حاء في العبرية والآرامية، لذلك فالفعل العربي (ناخ) من الإناخة والتَّنَوُّخ أي التلبث والبقيا والبقاء والمكوث يعطي نفس المعنى للفعل العبري (ناح) لكون اللغتين من أصل واحد حيث أنهما من اللغات السامية. والفعل في العربية (أناخ، ينيخ) فحينما نقول أناخ بالمكان أي أقام به. وبالتالي فكلمة نوح طبقا لهذا الرأي جاءت من طول مكثه في قومه (ألف سنة إلا خمسين عاما مثلما ذكرت التوراة والقرآن) وطول ملاحاتهم له.
ومن الجدير بالذكر أن أصل كلمة نوح ومعناها وما ذكرناه يرى البعض أنه ليس غريباً على اللغة المصرية القديمة، حيث أن الكلمة التي تشبهها في اللغة المصرية القديمة هي كلمة “نحح ” والتي تعني في المصرية القديمة الأبدية والخلود والبقاء، حتى أن المصريين القدماء أطلقوا على القبر “بر نحح” بمعنى بيت الأبدية أو بيت البقاء والمكوث.وما زالت كلمة “نحح ” في اللغة القبطية حيث أصبحت تنطق “إنح” وهي آخر تطورات اللغة المصرية القديمة.
ولكن من وجهة نظري أن كلمة نوح طبقاً لهذا التفسير وإن كان معناها كما قيل إلا أن هذا المعنى ليس له علاقة بما حدث لنوح وقومه؛ لأن اسم الإنسان يختاره له والداه دون علمهم بمستقبله؛ فقد يأتي الاسم على عكس ما يحدث لصاحبه في مستقبله. أما لو سلمنا بأن معنى اسم نوح له علاقة بطول مكوثه في قومه فحينئذ لا يكون الاسم “نوح” هو اسم الميلاد الذي اختاره أبواه وإنما يكون لقباً تلقب به نوح بسبب طول بقاءه في قومه، لأنه لو كان اسم علم فإنه يكون اسم المولد الذي أطلقه عليه أبواه حين ولادته وليس بعد بعثته وليس بسبب مكوثه في قومه الزمن الطويل ومن هنا فلو كان اسم (نوح) أطلقه عليه والداه حين ولادته فيكون معناه العبري (التلبث والبقاء والمكوث) ليس له علاقة بما حدث في حياته وقصته. أما إذا كان قد أطلق عليه هذا الاسم بعد بعثته في قومه و بسبب طول بقاءه فيهم فيكون لقباً وليس اسماً.
وقد كان نوحٌ عليه السّلام يعمل برعي الأغنام والنّجارة، فقد صنع النّبي نوح عليه السّلام سفينةً كبيرةً جداً بعد أن أمره الله بذلك. ويجتهد الباحثون في معرفة مكان ميلاد سيدنا نوح وهي محض اجتهادات ؛فيرجّح معظم الباحثين أنه ولد في بلاد بين الرافدين في العراق نظراً لذكر ظهور شخصية مشابهه له في قصة الطوفان التي وردت على الآثار من حضارة بلاد الرافدين القديمة، وهناك أقوال أخرى في ذلك.
سيدنا نوح الذي ذكرت الكتب السماوية أن الطوفان حدث في عهده ولقومه هو نبي ورسول ورد ذكره في الكتب السماوية، بالإضافة إلى ورود شخصية مشابهة له في أساطير بلاد الرافدين وغيرها من الأساطير التي تحدثت عن الطوفان في كثير من بلدان العالم، حيث كانت هناك شخصية محورية طيبة في تلك الأساطير تقوم بإنقاذ البشر الطيبين من الطوفان بحملهم في سفينة.
لقد كان نوح عليه السلام أسطورة في الصبر والمثابرة، وقيل أنه أول من استعان بالعقل والاستدلال المنطقي في الدعوة إلى الله تعالى وهداية البشر، بالإضافة إلى منطق الوحي. وعلى هذا يستحق سيدنا نوح عليه السلام التعظيم والإجلال.
يذكر القرآن الكريم أن سيدنا نوح عليه السلام نبي ورسول، وهو أوّل رسول أرسله الله إلى الناس، كما يذكر القرآن أن نوحا عليه السلام من الرسل أولي العزم الخمسة (وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وتسليمه). وعلى ذلك فسيدنا نوح من بين أهم خمسة أنبياء في الإسلام. وقد ورد اسم نوح عليه والسلام في القرآن الكريم في العديد من السور والكثير من الآيات القرآنية، ومجموع السور التي ورد ذكر سيدنا نوح فيها بلغت (29 سورة)، وأما اسمه فقد ورد في 43 موضعاً من القرآن الكريم. وقد تكرّرت قصته عليه السّلام مع قومه في سور عديدة ومختلفة في القرآن الكريم، وباستخدام أساليب متنوّعة، فجاءت مفصّلة تماماً في سورة هود، كما جاء الحديث عنها كذلك في كلّ من سورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة “المؤمنون”، وسورة الشّعراء، وسورة العنكبوت، وسورة الصّافات، وسورة القمر بشيء من التفصيل، كما جاءت إشارة إليها في كلّ من سورة الأنبياء، وسورة الفرقان، وسورة الذّاريات، وسورة وآل عمران وسورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام. كما أنّ هناك سورة كاملةً في القرآن الكريم سمّيت باسم نوح عليه السّلام.
وجميع تلك السور التي ذكرناها تعطينا أنباء سواء ملخصة أو مفصلة عن سيدنا نوح و ما دار بينه وبين وقومه، وما وجده من عناء معهم، وكذلك ما حدث لهم من طوفان، ونجاة المؤمنين منهم. وقد عُرف سيدنا نوح قبل النبوّة بالصلاح، والسيرة الحسنة، والاستقامة، والخلق الرفيع. وقد تحمل الأذى الكبير من قومه وصبر قروناً، ومن هنا فقد صنّفه الله سبحانه وتعالى مع الرسل أولي العزم. وقصته تعتبر عبرة لمن لم يتبعوه، كما أنها عبرة لكل الأمم حتى يومنا هذا.
لقد بعث الله تعالى نوحا لما عبد الناس الأصنام والطواغيت واتخذوا لها أسماءً مختلفةً وحادوا عن التوحيد ليدعوهم إلى عبادته وحده وترك عبادة غيره . واتبع نوح في دعوته جميع السبل مع قومه ترغيباً وترهيبا، حيث يؤكد لنا القرآن أن نوحا لم يلق آذاناً صاغية، واستمر الأكثرية على عبادة الأوثان ونصبوا له العداوة ولمن آمن به، وتوعدوهم بالرجم . وقد ذكر القرآن قصته وما كان من قومه وما أنزله الله من عذاب بالطوفان لمن كفر منهم ونَجَّى القلة التي آمنت به معه في السفينة التي صنعها نوح بوحي من ربه وتحت رعايته تعالى. واستنادا إلى القرآن الكريم فإن نوحا لبث في قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عامًا.
فدعاهم نوح عليه السّلام إلى عبادة الله تعالى بكلّ الطرق والسّبل، ترغيباً وترهيباً، ليتركوا ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان، ويعبدوا الله وحده لا شريك له. وقد أخبرهم نوح عليه السّلام أنّه لا يرجو من وراء دعوته إلى الله سبحانه وتعالى أيّ أجر، بل أنّه يبتغي كلّ الأجر من الله وحده، قال سبحانه وتعالى: “وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على ربّ العالمين ” (الشعراء/109)، ومكث فيهم يدعوهم قروناً، غير أنّ قومه لم يستجيبوا له، وقد وصفوا ما دعاهم إليه بالضّلال، فقالوا له كما ورد في القرآن الكريم: “إنّا لنراك في ضلال مبين “(الأعراف/60). وليس ذلك فحسب، بل أنّهم قد أصرّوا على عنادهم، وكفرهم، وشركهم بالله وحده، قال سبحانه وتعالى: ” وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً “(نوح/23). ولكن نوحا رغم ذلك كله لم يفقد الأمل فيهم في رجوعهم إلى الله تعالى، فظلّ يدعو لهم ويدعوهم ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، ويضرب لهم الأمثال، ويُناقش كل حججهم، ويبيّن لهم الآيات، غير أنّ قومه لم يستجيبوا لدعوته ولا لندائه وأخذوا يفرّون منه، ويضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما جاء إليهم، ولم يؤمن معه إلا القليل منهم، من البسطاء، والمساكين.وشكا نوح إلى ربه ما لاقاه من قومه من الصدود والعزوف عن دعوته؛ قال تعالى على لسان نوح:
وكالعادة فإن دعوة نوح عليه السلام لم تروق لسادة القوم، وأصحاب السلطة والمال. وزاد عناد قوم نوح عليه السلام وإصرارهم على الكفر، فلما أرهقوه ولم يجد منهم آذانا صاغية إلا قلة اتبعته شكا نوح إلى ربه:
ومن هنا كان الطوفان هو عذابهم الذي أنزله الله تعالى عليهم من السماء، بماء أغرق كل الذين كفروا، وكل الّذين سخروا منه، حتى ابن نوح كان معهم من المهلكين، حيث أنه لم يستجب لأمر أبيه، ونجا مع نوح الذين صدّقوا دعوته، بسفينة عملاقة صنعها لهم بأمرٍ من ربّ العالمين. كما جاء في آيات الكتاب المبين:
وتقول بعض الروايات أنه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصا فقط، وتشير بعض الروايات الأخرى إلى عدد أقل من ذلك، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النبي العظيم من أقصى درجات الصبر والاستقامة بحيث نستطيع أن نقول أنه كان يستجيب له شخص واحد كل عشر سنوات تقريبا.
استنادا إلى معظم المؤرخين والأكاديميين فإن التوراة التي تعتبر أقدم كتاب ديني سماوي ذكر قصة نوح هي في الحقيقة عبارة عن مجموعة من المخطوطات كُتِبَت من قِبَل العديد من الكتاب وليس من كاتب واحد أو مصدر واحد، وإنها على الأغلب قد جمعت في القرن الخامس قبل الميلاد، ونتيجة الاختلاف في المصادر فإن التوراة تُظهر شخصيتين متناقضتين لنوح؛ فتارة نرى نوح كرجل زاهد قريبا من “الخالق الأعظم” الذي اختاره ليخلص البشرية من الدمار، وتارة أخرى نرى التوراة تصف نوح كأول فلاح في البشرية وأنه أول صانع للنبيذ.
واستنادا إلى التوراة فإن نوح كان الحفيد التاسع أو العاشر لآدم؛ فهو نوح بن لامك بن متشولح بن أخنوخ (إدريس) بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبو البشر، وهذا هو كلام التوراة، وعلى هذا وطبقا للتوراة أيضا يعتبر نوح الجيل العاشر بعد آدم وأنه الأب الثاني للبشرية بعد نجاته ومن معه من الطوفان العظيم الذي أباد البشرية جميعا باستثناء الذين نجوا معه من الطوفان لاستعمالهم سفينة عملاقة اشتهرت باسم سفينة نوح. وطبقا للتوراة أيضا فقد كان عمر نوح 600 عاما عندما أوكل الخالق له مهمة بناء السفينة وعاش 350 سنة بعد الطوفان وكان عمره عند الوفاة 9500 عاما. وطبقاً للتوراة أيضا فإن من أبناء نوح الأربعة جاءت منهم البشرية بعد الطوفان وكان أبناء نوح هم: (سام) أكبر الأبناء وكان عمره 98عام عند حدوث الطوفان وعاش 500سنة أخري بعد الطوفان.
وكان له خمسة أبناء وهم: عيلام وآشور وآرام و أرباجشاد ولود. ويعتقد أن الآشوريين والعبريين والعرب والأراميين قد جاءوا من سلالة سام. وهناك ابنه(يافث): ويعتقد أنه كان أصغر أبناء نوح ويعتقد أنه من سلالته جاءت شعوب أوروبا، وكان ليافث حسب التوراة سبعة أبناء وهم: جومر وماجوج وتيراس وجافان وميشيخ وتوبال وماداي.
ويعتقد أن الفرس واليونانيين والميديين والأكراد والأيرلنديين والهنغاريين والسلوفاكيين والإيطاليين والألمان قد جاؤوا من هذه السلالة. حام: ويعتقد أنه والد الشعوب الأفريقية ومنهم المصريون القدماء و الأمازيغ. ويعتقد بعض اليهود استناداً إلى التوراة أن حام قد شاهد والده عاريا ذات يوم وقام بإخبار أخويه بذلك، وعندما علم نوح بهذا فإنه طلب من الخالق أن لا يبارك سلالة حام. ويعتقد بعض المحللين أن هذه قصة اختلقها بنو إسرائيل فيما بعد عند اجتياح بني إسرائيل لأراضي الكنعانيين الذين كانوا يستوطنون منطقة فلسطين الحالية لكي يبدو الأمر وكأنه تحقيق لنبوءة.
ولكن هذا التقسيم التوراتي اللاهوتي للبشرية قد عفا عليه الزمن ولم يصبح معترفا به من العلماء سواء على مستوى علماء الآثار والتاريخ أو علماء الأنثروبولوجيا. وتذكر التوراة أن الطوفان حدث حين كان عمر نوح 600 سنة وأنه مات وعمره 900 سنة.ويذكر القرآن الكريم أن سيدنا نوح مكث في قومه 950سنة (ألف سنة إلا خمسين عاما) وأنه عاش ألف سنة.
ويرى البعض أن في ذلك مبالغة، فيقول المؤرخ أحمد سوسة أن العلماء استنتجوا أن مدوني التوراة اقتبسوا هذه الطريقة أو المبالغة في الأعمار من السومريين الذين زعموا بأن عدد ملوكهم الذين حكموا قبل الطوفان بلغ 8 ملوك حكموا في خمس مدن لمدة 241000 سنة (مائتان وواحد وأربعون ألف سنة)، وأن هذه الأعمار الخيالية في تدوين أعمار الأشخاص لم تزل لغزا لم يتوصل علماء الآثار إلى حله حتى الآن رغم اجتهادات البعض منهم في هذا الموضوع. كذلك يتساءل البعض: هل يعيش إنسان مثل هذا العمر الطويل ؟ الأمر الذي لم يكد يكون معروفاً و حتّى في القرون الماضية، فمثلا الفراعنة أو بالأحرى المصريين القدماء وجدنا من الاكتشافات الأثرية أن أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام و أعمارهم لم تختلف عن أعمارنا و قد مرّ على دولتهم أكثر من سبعة آلاف عام أو أكثر، فكيف يكون ذلك ؟وفي ذلك يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار : لا مانع من أن يعمّر آدم و مَن قرب منه أعماراً طويلة، لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يحمل هموماً و لم تعتوره الأمراض المختلفة، و لم تنهك قوّته الأطعمةُ التـي لا يقدر على هضمها، فكان من المعقول أن يعيش طويلاً.
وأمّا نحن و أمثالنا ممّن جاءوا بعد ذلك فقد جئنا بعد أن أنهكت النوع الإنساني الأمراضُ و طحنته الأدواء. فالواحد منّا عصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه و أمّهاته، فلم تعد قوانا تتحمّل العمر الطويل.و عند علماء الطب و الأحوال الاجتماعية أن الإنسان قواه محدودة و الحياة العريضة تستنفدها بسرعة بخلاف الحياة الضيّقة، فإنّها تكون طويلة لقلّة ما يستنفد من قوي الأجسام بتلك الحياة.
فنحن الآن لا نعيش عيشة البساطة التي كان يعيشها آدم و من قرب منه، ولكننا نعيش حياة معقده بل نتفنّن في أنواع الطعام و لذائذ المعيشة بما ينهك قوانا، ومن هنا تكون أعمارنا قصيرة، و قد اجتمعت علينا الأمراض المتوارثة. و قال بذلك أيضا الشيخ محمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار فـي عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف و المعيشة كانت على بساطتها الأولى غير معقّدة، ولم تكن تزدحم الأمراض على الإنسان لأنه كان يعيش في الزمن الأول على البساطة والفطرة. و يقول بعض الأطبّاء الألمان: إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً من المعيشة البسيطة والأكل البسيط. كذلك يرى بعض العلماء أن السنة التي تم بها حساب مدة حكم ملوك بلاد الرافدين والتي وردت في حضارتهم هي سنة تختلف عن سنتنا هذه، وعلى ذلك جاء حساب عمر سيدنا نوح بنفس الطريقة لكونه عاش هناك في تلك الفترة ومن هنا يرون أنه جاءت التوراة والقرآن سيراً على ذلك. على أن باب الاجتهاد مازال مفتوحا في ذلك.
أما العهد الجديد من الكتاب المقدس (الإنجيل) فيصور نوح شخصية مطيعة للخالق الأعظم ويضعه إنجيل مرقس في نفس منزلة إبراهيم ويعقوب عليهما السلام . ويتكرر في العهد الجديد الفكرة القديمة بأن بناء السفينة استغرق 120 عاما كان نوح أثناءها يحاول إقناع الناس باتباع ما أمر به الله.وقد ورد في الكتابات المسيحية في القرون الأولى لميلاد السيد المسيح قصة سيدنا نوح عليه السلام بشكل موسع، وأولتها تلك الكتابات أهمية كبيرة، وقد اعتبره المسيحيون أيقونة وسبيلاً للخلاص، وذلك عن طريق إيجاد وجوه شبه بين سفينة نوح عليه السلام والكنيسة التي تأخذ بيد المؤمن المسيحي إلى بر الأمان.
نوح في قصص الطوفان الواردة في المكتشفات الأثرية وفي تراث الشعوب
وردت قصة الطوفان في كثير من القصص والأساطير من مختلف البلدان والشعوب؛ومن هنا كان هناك في كل قصة من قصص الطوفان شخصية خيرة تصنع سفينة وتنجو بالناس الطيبين من الطوفان وكانت هذه الشخصية هي المعادلة لشخصية سيدنا نوح ولكن بأسماء مختلفة. فمثلا يعتبر نوح أحد أنبياء ديانة الصابئة المندائيين ويدعى (نو) بالمندائية الآرامية الصابئة. وترد نصوص كثيرة حول هذا النبي بكتاب (الكنز العظيم) وهو كتاب الديانة الصابئية المقدس، وهناك نصوص صابئية كثيرة أيضاً حول ابنه النبي سام وقصة الطوفان، وإلى اليوم يحيي الصابئة مناسبة (أبو الهريس) ترحماً على أرواح البشر الذين ماتوا في الطوفان.
وعند البهائيين أن السفينة والطوفان رمزيان، ويرون كذلك أن أتباع نوح كانوا على قيد الحياة روحيا لأنهم حفظوا في سفينة تعاليمه في حين أن آخرين ماتوا روحيا.وفي كتاب الإيقان البهائي يوافق المعتقد الإسلامي بأن نوح كان لديه عدد من الصحبة سواء 40 أو 72 بالإضافة إلى عائلته على السفينة وأنه خاطب الناس (950عاما رمزيًا) قبل الطوفان.
وهناك شخصيات بأسماء أخرى في قصص الطوفان التي وردت من الحضارات القديمة قبل الكتب السماوية تعادل شخصية نوح أو هي الشخصية المناظرة لشخصية سيدنا نوح عليه السلام؛ ففي قصة الطوفان السومرية التي وردت من العراق وهي أقدم قصة عن الطوفان نجد شخصية “زيوسودرا” هو المعادل لشخصية سيدنا نوح؛ كان يوصف بالتقوى ويخاف من الله، وينكب على خدمته في تواضع وخشوع، وحينما قررت الآلهة أن تغرق الأرض بطوفان عظيم يهلك جميع الكائنات الحية يقوم (زيو سودرا) ببناء سفينة يضع فيها خاصته من الناس بالإضافة لبعض الحيوانات والطير ذكر وأنثى. ثم يحدث الطوفان ليغرق كل الأرض وما عليها من حياة. وبعد توقف المطر ترسو السفينة على سفح جبل (نيزير) و يُطلق (زيوسودرا) طيوره للتأكد من ظهور اليابسة.
وفي أسطورة الطوفان البابلية الشهيرة نجد “أوتو نبشتم” هو الشخصية المعادلة لسيدنا نوح فرغم أن أسطورة الطوفان السومرية والبابلية من العراق القديم ومن نفس البيئة إلا أن الشخصية المعادلة لسيدنا نوح فيهما يتغير اسمها؛ ففي الأسطورة السومرية كما ذكرنا نرى هو (زيوسودرا) إلا أنها في الأسطورة البابلية نراه(أوتو نبشتم) بالرغم أن الأسطورة البابلية مبنية على الأسطورة السومرية السابقة لها في الزمن؛ حيث تروي القصة البابلية أنه في أثناء رحلة جلجامش الطويلة والمصاعب التي لاقاها بحثا عن الحياة الأبدية والخلود أن “أوتو نبشتم” قد روى لجلجاميش قصة الطوفان الشهيرة وأن الآلهة أحدثت طوفانا واختارته هو ليصنع سفينة وينقذ فيها البشر.
وفي أسطورة الطوفان الفارسية نجد شخصية ” أهرمن” هي المعادلة لنوح؛ حيث ترد إشارة غير مفصلة إلى ذلك الطوفان مضمونها أن “أهرمن ” كان يحارب “مثرا ” Mithra ويتعقبه بالمكر والخديعة، فأرسل “مثرا ” طوفانًا إلى الأرض، فغرقت، ولم ينجُ سوى رجل واحد، حمل معه أسرته وبعض الحيوانات في مركب صغير، وقد قام هذا الرجل بتجديد الحياة على الأرض مرة أخرى.
وهناك شخصية “ديوكاليون” في الأساطير اليونانية وهي أيضا شخصية معادلة لشخصية سيدنا نوح؛ حيث تذكر الأسطورة اليونانية أن “ديوكاليون” قام بإنقاذ ذريته ومجموعة من الحيوانات من الطوفان بواسطة سفينة. وفي أسطورة الطوفان الهندية نجد”مانو” هو الشخصية المعادلة لنوح. وهكذا في باقي قصص الطوفان الأخرى. وتكرار الشخصية المعادلة لنوح مع تكرار قصة الطوفان في مناطق متباعدة وبلاد شتى يضع في أذهاننا سؤالا هاما وهو: كيف تكررت قصة الطوفان بشخوصها وأحداثها ـ رغم بعض الفوارق ـ في كل هذه المناطق التي لا يجمعها جنس أو مكان أو زمان؟؟ هذا ما سوف نجيب عليه في باقي بحثنا.
سفينة نوح هي أشهر سفينة على مر التاريخ والعصور؛ فهي تلك السفينة التي تم صناعتها بيد رجل صالح بوحي من الإله، وهي التي حملت على متنها وداخلها النخبة المؤمنة، كما حملت من كل زوجين اثنين من الحيوانات والطيور، وجرت بهم في خضم هائل وطوفان قاتل أرسله الرب سخطا على أولئك الأشرار من البشر حتى وصلت بالصالحين إلى بر الأمان. وقد صارت سفينة نوح مضرب الأمثال لمن يبتغي النجاة أو يتحدث عن النجاة.
وطبقا للقرآن الكريم فقد بدأ نوح في بناء السّفينة على اليابسة بوحي من الله تعالى وتحت عنايته، قال تعالى: ” فَأَوْحَيْنَا إليه أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا”. وكان قوم نوح يسخرون منه لبنائِه السّفينة دون وجود الماء الذي تجري عليه. وبالرغم من كونها سفينة لم يذكرها القرآن الكريم بلفظ سفينة إلا مرة واحدة في سورة العنكبوت، حيث كان التعبير الغالب والمفضل لها في القرآن هو “الفُلْك”؛ وقد جاء وصف سفينة سيدنا نوح في القرآن الكريم على أنها فُلك للتعبير عن هندسة حوافها المستديرة بشكل بيضاوي، فكلمة الفلك نفسها جاءت من فعل (فلك) وهو الاستدارة كقولنا: فَلَكَ ثدي الفتاة إذا استدار، والفُلك في معاجم اللغة هو الشكل المستدير المرتفع عن الأرض وهو الشكل الوعائي وهو شكل يعبر غالبا عن نوع خاص من السفن مثل شكل قارب النجاة الذي لازال يسمى في بعض المناطق بالفلوكة حيث كانت سفينة نوح فلوكة عملاقة. كما جاء وصف آخر على أنها “فُلك مشحون” للتعبير عن حمولتها الكبيرة. وجاء وصفها مرة واحدة في القرآن كما ذكرنا بأنها سفينة لأنها مدببة تسفن صفحة الماء بمقدمتها، وقد سُميت السفن بذلك لأنها تقشر وجه الماء وهذا لا يتأتى إلا إذا كانت مقدمة السفينة مدببة.
وقد جاء وصفها كذلك بأنها جارية تعبيرا عن جريانها فوق الماء: “إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية”(الحاقة آية 11). والجارية هي مفرد جواري كما جاء في سورة الرحمن “وله الجوارِ المُنْشَآتُ في البحرِ كالأعلام”. وجاء وصفها كذلك على أنها ذات ألواح ودُسُر، قال تعالى “وحملناهُ على ذاتِ ألوح ٍو دُسر” (القمر 13) .والألواح يقصد بها ألواح خشبية حيث أن نوح قام ببناء السفينة من ألواح الأشجار، ويقال أيضا أن نوح كان نجاراً، أما الدُّسر فهي الحبال التي كانت تربط أجزاء السفينة حيث أنه لم يكن قد عرفوا المسامير الحديدية في ذلك الوقت، وهي مسامير السفن بعد ذلك التي تُشَدُّ بها مثلما ورد في المعاجم اللغوية مثل لسان العرب وتاج العروس وحسب بعض المفسرين العرب.ولكن البحارة العرب في القرون الوسطى استبدلوا الدُّسُر المعدنية بحبال تربط أجزاء السفينة حتى يتسنى لراكبيها إصلاحها بكل سهولة لكون المسامير المعدنية تصدأ بسهولة ويصعب جداً إصلاحها خاصة إذا كانت السفينة مبحرة، ولذلك أصبحت الحبال التي وضعت بدل الدُّسُر المعدنية تسمى أيضا دُسُر، حتى ذهب بعض المفسرين إلى القول بأن دُسُر السفينة هي حبالها. كذلك جاء وصف السفينة بأنها ذات مسالك أو مساكن أو غرف حسب ما ورد في سورة (المؤمنون) حيث قال تعالى: “فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ”.
ومن هنا نستطيع القول بأن سفينة نوح لم تعرف البشرية مثلها، وطبقا لوصف القرآن الكريم كانت سفينة ضخمة وتحتوي على العديد من الحجرات داخلها، وكانت مغلقة تماما من أعلى حتى لا تدخلها المياه سواء من شدة الأمطار أو من شدة الطوفان، وكان لها منفذ للدخول منه والخروج.لقد كانت سفينة ضخمة لتستوعب ما تحمله، وكانت كذلك قوية متينة حتى تتحمل شدة الطوفان الهائل الذي وصفه الله تعالى حينما تكلم عن حالة السفينة أثناء الطوفان قائلا: “وهي تجري بهم في موج كالجبال”.
لاشك أن سفينة نوح لم تكن سفينة عادية ولم يكن العمل في بناءها سهلاً في ذلك الزمن البعيد المحدود الإمكانيات، إذ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإضافة إلى المؤمنين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعاً وطعاماً كثيراً يكفي للمدة التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان. ومثل هذه السفينة بهذا الحجم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان. فهذه السفينة ستجري في خضم هائل، وينبغي أن تمر سالمة عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها. وبعدَ الانتهاء من بنائِها حمل نوح عليه السّلام العددَ القليل من المؤمنين الذّين صدَّقوا دعوته وآمنوا بالله تعالى بعد أن أوحى له الله بذلك إيذانا ببداية الطوفان. وركب معه أيضاً في السّفينة اثنين من كل نوعٍ من الحيوانات من ذكر وأنثى.
والقرآن الكريم لم يتعرض لمقاييس السفينة من طول وعرض وارتفاع حيث اكتفى بالإشارة إلى حجمها الضخم ومتانتها عن طريق الإيحاء الذي نفهمه من السياق القرآني. لكن للأسف بعض المفسرين المسلمين أدلوا بدلوهم في هذا المضمار دون أسانيد سوى اعتمادهم على ما ورد في التوراة من مقاييس للسفينة؛ فقيل في طولها أنها بلغت ثمانين ذراعا وقيل ألفاً وقيل ألفاً ومائتي ذراع وقيل ألفي ذراع، وقيل عرضها كان ستمائة ذراع (كان الذراع يعادل نصف متر تقريبا)، وقيل غير ذلك. وقيل أنها صُنِعَتْ من شجر الساج أو الصنوبر على اختلاف بين المصادر. وقالوا أن نوح كان يزرع الشجر وينتظر نموه مئة سنة، وينشره مئة أخرى أو أربعين سنة. وقالوا مثلما قالت التوراة أيضا بأن نوح قام بطلاء السفينة من الداخل والخارج بالقار، وجعل منها ثلاثة طوابق؛ حيث جعل الطابق السفلي منها للحيوانات والوحوش، والأوسط لبني الإنسان والعلوي للطيور. وكان للسفينة سقف مطبق عليها. وكل هذه الأوصاف الخاصة بالسفينة والتي لم ترد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية قد أخذها بعض علماء المسلمين عن التوراة كما سنرى حين كلامنا عن سفينة نوح في التوراة.
وذكر الإمام الطبري أثرا غريبا يتعلق بسفينة نوح من جهة حجمها وطولها والمدة التي صنعت فيها، والمادة التي تكونت منها والمخلوقات التي كانت عليها. وذكر تلك التفصيلات الإمام السيوطي أيضا وقال أنها من الإسرائيليات التي اختلقها اليهود وأمثالهم على مر العصور وكانت شائعة ومشهورة في الجاهلية فلما جاء الإسلام نشرها أهل الكتاب الذين دخلوا الإسلام بين المسلمين، والمسلمون رووها بحسن نية ولم يزيفوا اعتمادا على أن ظاهرها البطلان. وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى غرابة ما رواه الطبري. وقال الرازي بعد أن ذكر هذه الأقوال : “واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني؛ لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلا، وكان الخوض فيها من باب الفضول”.
ولم يذكر القرآن الكريم أنه كان لسفينة نوح مجاديف أو أشرعة، أي أن الفُلك أو السفينة كانت مجرد جسم خشبي له استدارة يعوم على الماء فقط وذلك في قوله تعالى” فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون”(الشعراء 1199) فقد أعطى للفلك صفة بأنه “مشحون” وهو من فعل “شحن” أي أنه محمل بالناس وغيرهم. وقال البعض أنه في زمن نوح لم يتم اختراع المجاديف أو الأشرعة، ولكن نقول لهم أن ذلك لم يثبت إن كانوا قد اخترعوا المجاديف أو الأشرعة من عدمه، ولكن سفينة نوح كما رأينا معجزة في حد ذاتها فلا تحتاج لأي من الأشرعة أو المجاديف لأنها تجري بأعين الله تعالى وتحت رعايته، كما أنه لا يعقل أن تكون لمثل هذه السفينة أشرعة أو مجاديف لأن هذا لا يتلاءم مع الجو الذي تجري فيه على المياه تحت طوفان هائل لا يتسنى معه وجود أية أشرعة ولا يمكن تحته استخدام أية مجاديف إلا قدرة ربانية عظمى.
أما كيفية توجيه سفينة نوح وجرها فقد تم بواسطة التيار المائي حسب اتجاهه الطبيعي لقوله تعالى: “إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية”(الحاقة 11)، وقوله تعالى “وهي تجري بهم في موج كالجبال”(هود 42).أما التوجيه بحيث لا ترتطم السفينة بالصخور أو بأي عائق فقد تم برعاية الله وعنايته كما في قوله تعالى عن السفينة:”تجري بأعيننا” (القمر 14) وقوله تعالى “وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم”(هود 411)
ونجد التوراة قد توسعت في وصف السفينة وحجمها ومقاييسها وكيفية صناعتها. ولكننا إذا دققنا في وصف التوراة للسفينة نجد أن كتابها قد اعتمدوا كلياً على ما جاء في أسطورة الطوفان السومرية والبابلية من بلاد الرافدين. وسنعقد مقارنة بينهما بعد ذكر ما جاء في التوراة .وطبقا للتوراة (العهد القديم) فإن نوح بني السفينة من شجر(الجوفر) :”اصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ”، ولا يُعرف حتى الآن ما هو بالضبط هذا النوع من الأشجار إذ ورد ذكرها فقط في سفر التكوين، وهناك الكثير من الآراء حول ماهية خشب الجوفر. ويرجح البعض أنه شجر الأرز. كذلك جاء وصف السفينة في سفر التكوين في التوراة كالتالي:
وهكذا نجد أن السفينة طبقا للتوراة كانت عبارة عن مساكن من ثلاث طوابق؛طابق سفلي للدواب، وطابق أوسط للبشر، وطابق علوي للطيور.أما مقاييس السفينة حسب ما جاء في التوراة أيضا (العهد القديم) أنه كان طولها 300 ذراعا، وعرضها 50 ذراعا، وارتفاعها 30 ذراعا. وهذا القياس يجعل حجم السفينة مقارباً إلى 450 قدما وبالتالي طبقا لهذه القياسات التوراتية فإن سفينة نوح أكبر من أكبر سفينة موثقة تاريخيا في العصور القديمة وهي السفينة التي كان حجمها 400 قدما والتي بنيت في الصين في القرن 15 بأمر من القائد العسكري (زنغ هيي). وبالتالي فإن حجم السفينة كان 40,000 متر مكعب أي مقاربا إلى حجم سفينة تيتانيك المشهورة. وفي نفس السياق جاء في سفر التكوين الإصحاح السادس ( 6/15 ): “ليكن طوله ثلاث مئة ذراع وعرضه خمسين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا واجعل له نافذة على انخفاض ذراع من السقف”؛ وهنا نلاحظ أن طول السفينة ستة أضعاف عرضها فهي بهذا الوصف مستطيلة الشكل جدا ولذلك عندما رسموها وجدوها تشبه الصندوق ومن هنا كان اسمها في اللغة الانجليزية Noah’s ark أي (تابوت نوح).
ويقول علماء هندسة السفن إن هذه الأبعاد لا تصلح لبناء سفينة لأنها بهذا الشكل ستنقلب وتتحطم لأنها غير متوازنة في الماء ولن تستطيع أن تمخر عباب الماء كي تسير حسب قوانين الفيزياء المائية. وقد اعتاد كتاب التوراة ترك الحقيقة وذكر مقاييس وأبعاد غير واقعية؛ فقد قال أحد العلماء: “أنا أدعو كل المهندسين ليأخذوا أبعاد هيكل سليمان التي وردت في التوراة ويحاولوا أن يصنعوا مجسم على الكمبيوتر فلن تساعدهم الأبعاد المزعومة ولا يمكن هندسياً بناء هذه الأبعاد على الأرض. بل إن أبعاد البِرْكة المائية التي سيحصلون عليها أكبر من أبعاد الأرض التي من المفترض أن تبنى في وسطها”. وهكذا فإن ذلك يؤكد على تحريف التوراة ودقة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه المحفوظ من الله تعالى.
والسؤال الآن عما إذا كان بإمكان هذه السفينة أن تتسع لجنسين من كل أنواع الحيوانات وعما إذا كان بمقدور الأشخاص القليلين على السفينة العناية بهذا العدد الهائل من الحيوانات طيلة المدة التي ظلوا فيها حيث أن الزمن الذي بقي فيه نوح ومن معه في السفينة طبقا للتوراة بعد حسابه نستنتج أنه كان لعدة أشهر وربما سنة .فقد قيل أن الطوفان استمر 150 يوما وقيل 40 يوما، وبالطبع سينتظر نوح ومن معه حتى تجف الأرض لينزلوا من السفينة ومعهم حيواناتهم.
سفينة الطوفان في الأساطير القديمة وتأثير ذلك على التوراة
وفي أسطورة الطوفان البابلية ورد وصف سفينة النجاة من الطوفان بالتفصيل فقد كانت سفينة عظيمة مكونة من سبع طوابق، وقسم كل طابق إلى سبعة مقاصير، وكان ارتفاعها يساوي طول ضلعها الطويل؛ وعليه فهي سفينة مكعبة الشكل، ولكن يرى البعض أن هذا الوصف قد لا يعني بالضرورة أنها مكعبة فقد تكون الطوابق مدرجة وفي هذه الحالة ستبدو السفينة من حيث المقاييس والشكل وكأنها زقورة عائمة. وكان للسفينة باب أو كوة واحدة على الأقل، وربما دفة. وحسب الأسطورة فقد تم دهان السفينة بمادة القار حتى لا ينفذ الماء إلى السفينة.وعندما تم بناء السفينة حملها “أوتو نبشتم” ووضع فيها ما لديه من ذهب وفضة، ووضع المخلوقات التي تخيرها من كل زوجين اثنين ووضع عائلته والصناع، وعندما نزلت السفينة إلى الماء أصبح ثلث المكعب السفلي في الماء وصعد هو نفسه بإشارة من إله الشمس وسد نوافذ السفينة ثم سلم دفة السفينة إلى الملاح ” بوزر ـ أموري” وهو من أتباعه. وفي الصباح بدأت العاصفة ليبدأ الطوفان.
وهنا نلاحظ تطابق وصف السفينة في التوراة مع ما جاء في أسطورة الطوفان البابلية في كثير من النقاط؛، ففي الرواية البابلية نرى السفينة مقسمة لعدة طوابق طبقا لما تحمله من أنواع الأحياء، كما نجد في كلتا الروايتين يتم دهان السفينة بالقار حتى لا ينفذ الماء إليها، وكما هو معروف فإن أسطورة الطوفان البابلية أقدم تاريخيا من التوراة بمئات السنين ومن هنا أرى من وجهة نظري أن هذا التطابق إما أن يكون رواة التوراة قد نقلوه حرفيا مما ورد في قصة الطوفان البابلية ليزيدوا ويتوسعوا في القصة، وإما أن تكون قصة الطوفان البابلية مأخوذة عن أصل حقيقي أقدم وهو القصة الحقيقية لطوفان سيدنا نوح الذي حدث منذ أزمنة غابرة وظلت الروايات تحتفظ بها شفاهة ً لعدم اختراع الكتابة في وقتها وأنه رغم دخولها في عالم الأساطير ودخول الحذف والزيادة على القصة إلا أن جوهر القصة الأصلية الحقيقة لم ينله تحريف في القصة السومرية، وجاءت به التوراة بعد ذلك.
كان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن الماضي أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان، ولكن الاكتشافات الحديثة أثبتت غير ذلك؛ حيث عثر في عام 1853 على نسخة من رواية الطوفان البابلية. وفي الفترة ما بين 1889م، 1900م، اكتشفت أول بعثة أثرية أمريكية قامت بالتنقيب في العراق اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان في مدينة “نيبور” (نفر) وهي أقدم قصة للطوفان.ومن بعدها جاءت القصة البابلية …الخ .كما جاء ذكر الطوفان في القرآن الكريم في كثير من السور والآيات.
وطبقا للقرآن الكريم تتلخص قصة الطوفان في عدة مراحل: دعوة سيدنا نوح لقومه فترة طويلة 950 عاما وعدم استجابتهم له إلا قليل (تحدثنا عن ذلك)، ثم توجه نوح إلى الله بالدعاء علي قومه(تحدثنا عن ذلك)، ثم أمر الله تعالى سيدنا نوح بصناعة السفينة (تحدثنا عن ذلك)، ثم حدوث الطوفان. وطبقا للقرآن الكريم فإن الطوفان عندما حدث مر بمراحل أو مشاهد متتالية ومتنامية: فبعـد أن بنى نوح السفينة بوحي من ربه وتحت عينه ورعايته أعطاه الله علامة يعرف بها بداية الطوفان حتى يتمكن أن يحمل من معه وما لديه في تلك السفينة في الوقت المناسب:
قال ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة أن التنور هو وجه الأرض، وقال بعض المفسرين أن فوران التنور هو نبوع الماء من التنور من الأرض وهي إشارة لنوح بركوب السفينة، والفوران حسب المعاجم اللغوية هو : ارتفاع سائل بسخونة نتيجة تعرضه لمصدر حرارة، وقيل أن التنور هو حدوث بركان في المنطقة، وفي تفسير آخر أنه التنور الذي ورثه نوح من حواء، أو فوران الماء على سطح الأرض، وقيل طلوع نور الفجر وقيل غير ذلك.وإن كنت أعتقد أن فوران التنور هو ظاهرة ترتبط ببداية الطوفان. لكن المهم هو أن التنور هو إشارة وعلامة من الله تعالى لنوح ليبدأ في ركوب السفينة ومن معه. وانتظر نوح حتى تحققت العلامة وفار التنور وهنا قام نوح بتنفيذ أمر ربه فحمل في السفينة من كل زوجين اثنين من كل ما توفر لديه من حيوانات وبهائم من أجل بناء حياة جديدة بعد الطوفان، وحمل كل من آمن معه وأهله إلا من كفر منهم، وكان من آمن معه عددهم قليل.
وصعد أهله إلا امرأته التي كانت كافرة فلم تصعد، وكان أحد أبنائه يخفي عصيانه ويبدي الإيمان أمام نوح، فلم يصعد هو الآخر. وكذلك كانت أغلبية من لم يؤمنوا به فلم يركبوا معه، وصعد المؤمنون. قال ابن عباس آمن من قوم نوح ثمانون إنسانا، وقال آخرون اثنين وسبعين، وأرى أنا أن باب الاجتهاد في عدد الذين آمنوا بسيدنا نوح مغلق لعدم ورود عددهم لا في القرآن ولا في أحاديث الرسول ولم يثبت عددهم في اكتشاف علمي. المهم قام نوح بتحميل المؤمنين رجالا ومعهم نساؤهم في السفينة. وهنا يُطَمْئِن سيدنا نوح المؤمنين الذين معه ويهدئ من روعهم موضحا لهم أن السفينة تجري بمشيئة الله تعالى وتحت عنايته : “وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ”(هود 41).
ثم كانت المرحلة التالية مباشرة و هي طبقا لرواية القرآن الكريم هطول أمطار غزيرة منهمرة وانفجار عيون الأرض بالماء؛فالتقت مياه الأمطار الغزيرة مع المياه الكثيفة التي تفجرت من الأرض محدثة سيولا ثم طوفانا، ويصف القرآن الكريم ذلك في أسلوب بليغ مؤثر: “ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر .وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر”(سورة لقمان آية 11، 12). وقد بدأ جريان السفينة في هذا الخضم. ثم جاءت مرحلة طغيان الماء وذلك بارتفاعه وتغطيته الأرض ليصبح طوفانا هائلا حسب قوله تعالى ” إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَـٰكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَٰاعِيَةٌ” (سورة الحاقة 11، 12). وهكذا طبقا للقرآن الكريم فإن الطوفان كان عاليا قويا، وكانت الأمواج هائجة عالية تشبه الجبال. ويصف القرآن الكريم هول الطوفان في وصف بليغ مؤثر أيضا في قوله تعالى عن السفينة أثناء جريانها في الطوفان: “وهي تجري بهم في موج كالجبال” مما يدل على ارتفاع الأمواج التي بلغت ارتفاعا عظيما.ولكن السفينة التي كانت تجري بهم في هذا الموج الهائل كانت تجري بعناية الله تعالى وتحت بصره حيث قال تعالى:
وهكذا في خضم هذا الطوفان المدمر والأمواج العاتية كانت السفينة العظيمة أعجوبة زمانها تمخر عباب الماء بلا أشرعة ولا مجاديف، وهي تحمل قلة من المؤمنين لتبلغ بهم بر الأمان.وحاول من كانوا بالأمس ساخرين اللحاق بالسفينة ليكونوا مع الناجين ولكن هيهات فلم يحمهم من الغرق شيء؛حتى أعالي الجبال، وفي هذا الهول وبعاطفة الأبوة نادى نوح ابنه أن يركب معه فلم يُجبه، وقال أنه سيأوي إلى منطقة عالية لا يصلها الماء تعصمه من الغرق، لكن حال الماء بين نوح وابنه وغرق الابن ويذكر القرآن الكريم هذا الحوار الأبوي بين نوح وابنه ومعصية الابن العاق بصورة مؤثرة:
وأخيراً جاءت مرحلة توقف الطوفان وانتهاؤه، وذلك بعد أن أهلك رب العزة الكافرين وأبقى على المؤمنين بما معهم، فقد أمر الله سبحانه وتعالى الأرض أن تبتلع الماء، وأمر السماء أن تقلع عن أمطارها في أسلوب بليغ جدا ومؤثر يدل على قدرته تعالى المطلقة (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)( 44 هود) .وهكذا رست السفينة بمن فيها على الجودي وغرق الكفار .وأمر الله نوحا أن يهبط من السفينة ومن معه في أمان وتحت رعايته تعالى ليبدأ في تعمير الأرض “قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّن مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ”(هود 48) وهكذا هبط نوح بسلام لتبدأ حياة جديدة مع أهل الإيمان.
هذه هي قصة الطوفان كما وردت في القرآن الكريم في بلاغة متناهية، وجمال سرد، لأنها من رب العزة جلا جلاله، وأما ما حشا المفسرون به تفاسيرهم من الروايات في هذه القصة وغيرها عن الصحابة والتابعين وغيرهم فلا يعتد بشيء منه، ولم يُرفع منه شيء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بسند صحيح ولا حسن . فمثلا حديث عائشة في صنع السفينة، وأم الولد الكافر الذي رفعته لينجو فغرق معها، كلها روايات ضعيفة لا أساس لها من الصحة.وينكر العلماء ما رواه ابن جرير عن ابن عباس من إحياء عيسى – عليه السلام – بطلب الحواريين لحام بن نوح وتحديثه إياهم عن السفينة في طولها وعرضها وارتفاعها وطبقاتها وما في كل منها، ودخول الشيطان فيها بحيلة احتال بها على نوح، ومن ولادة خنزير وخنزيرة من ذنب الفيل، وسنور وسنورة (قط وقطة) من منخر الأسد، وكل ذلك من الأباطيل الإسرائيلية المنفرة عن الإسلام، وقد رواه من طريق علي بن زيد بن جدعان، وقد ضعَّفه الأئمة كأحمد ويحيى وغيرهم.
وفي التوراة وردت قصة الطوفان في الإصحاحات السادس والسابع والثامن و التاسع من سفر التكوين وتجري أحداثها على النحو التالي:
ويكرر الرب أوامره في الإصحاح التالي فيأمر نوح أن يدخل التابوت ومن معه ذلك لأن الرب قرر أن يغرق الأرض ومن عليها بعد سبعة أيام ذلك عن طريق مطر يسقط على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. ويصدع نوح بأمر ربه فيأوي إلى السفينة ومن معه وأهله، وتقول رواية التوراة أن الرب هو الذي جمع كل أنواع الحيوانات وساقها إلى سفينة نوح، ثم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء، واستمر الطوفان أربعين يوماً وأربعين ليلة على الأرض.
حينئذ طبقا للتوراة تيقن نوح أنه ومن معه يستطيعون النزول إلى الأرض .وبعد خروج نوح من السفينة أو “التابوت ” كما تسميه التوراة يقوم بجمع الأحجار ويبني مذبحا يحرق فوقه بضعة حيوانات، فتتصاعد رائحة القربان المشوية ليتنشقها الإله الذي سيبارك نوحا ونسله حيث سيعمرون الأرض. أما عن سبب الطوفان في التوراة فهو أن الله رأى الناس قد ظلمت وفسدت وامتلأت الأرض فساداَ وظلماً طبقاً للتوراة. وهكذا فإن الزمن الذي بقي فيه نوح ومن معه داخل السفينة طبقا للتوراة وبعد حسابه نستنتج أنه كان أشهرا وربما سنة وهذا غير معقول لأسباب كثيرة.
والشيء الهام الذي لابد من عرضه هو التناقض الموجود في الرواية التوراتية للطوفان؛ ففي سفر التكوين 7 /3ـ2: “خذ معك من كل نوع من الحيوانات الطاهرة سبعة ذكور وسبع إناث وزوجين ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات النجسة”. أما التكوين 6/19: “تأخذ معك في الفلك زوجين ذكرا وأنثى من كل كائن حي ذي جسد واثنين من كل صنف من أصناف الطيور والبهائم والزواحف على الأرض”. أما عن ارتفاع الماء ففي رواية استمر الماء أربعين يوما كما سلف ذكره “ودام الطوفان أربعين يوما على الأرض… وأغرقن جميع الجبال العالية التي تحت السماء كلها”(التكوين/19) بينما في رواية أخرى استمر 150 يوما: “ولم يبق سوى نوح ومن معه على الفلك وظلت المياه طافية على الأرض مدة مائة وخمسين يوما”. ومن هنا نجد تناقضات واضحة، فإذا كانت التوراة مقدسة لأنها كلام موسى وحياً من الله تعالى فهل لا يستطيع الله في التوراة إعطاء معلومات محددة عن أزواج الحيوانات أو عن مدة دوام الطوفان على الأرض؟ حاشى وكلا، فالله تعالى عليم بكل شيء وعنده مقادير كل شيء مهما صغر أو كبر ولكن هي تحريفات أدخلها كتاب التوراة لأنهم كتبوا التوراة بعد نزولها بقرون طويلة.
كذلك نجد أن سبب العقاب بالطوفان طبقا للتوراة أن الله ندم لأنه صنع الإنسان: “ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الذي خلقته الإنسان مع البهائم والدبابات وطيور الأرض لأني حزنت أني عملتهم” . وجاء كذلك: “رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، فحزن أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه، وعزم على أن يمحو الإنسان والبهائم والدواب والطيور عن وجه الأرض”.
وهذا الكلام الذي تذكره التوراة يتنافى مع حكمة رب العزة وعلمه المطلق بما سيئول إليه حال الإنسان؛ فكيف لرب العزة أن يندم على فِعل فَعَلَه وهذا يتنافى مع علمه وحكمته تعالى، فلا يعقل أن الله تعالى وحاشاه أنه لم يكن يعلم ما سيصنعه الإنسان . كما أن استئصال قوم نوح كان استئصالاً مُستحقاً بسبب كفرهم وعنادهم وإصرارهم على هذا الكفر، رغم ما بذله نوح معهم طيلة قرون يعظهم ويرشدهم وهم يستكبرون، ويضعون أصابعهم في آذانهم كما سلف القول. وحيث أن البشرية كانت في بدايتها أثناء عهد نوح فكان يجب ترسيخ مفهوم التوحيد واستئصال الكفرة المستكبرين كي يكونوا عبرة.
ومن ذلك فإن أي قارئ للتوراة يلاحظ أن التوراة تتحدث بأسلوب بشري بل بأسلوب إنسان ساذج وليس حصيف، وليست بأسلوب إله خالق قاهر قادر حكيم عليم له مشيئة مطلقة. بل هي تتحدث بأسلوب اليهود وندمهم على كل شيء وتحسرهم في سنوات الضياع والتيه. وبالتالي فهذه التوراة التي بين أيدينا ليست هي كما أنزلها الله على موسى وإنما هي بعد تحريفها تحريفاً كبيراً وذلك بسبب كتابتها بعد مئات من السنين من نزولها. ولأن التوراة الحالية صياغة بشرية فإنها تذكر أن الله ـ حاشاه تعالى ـ فقد الاتصال مع سفينة نوح فأرسل ريحا على الأرض لتجفف المياه وتسد مزاريب السماء كي يتراجع الطوفان:
ولكي لا ينسى الله فيعذب الأرض مرة ثانية فقد ذكرت التوراة أن الله وضع علامة تذكره عندما يراها كي لا يهلك الأرض ثانية بالطوفان، لذلك فهو يرسم قوس قزح على صفحة السماء كي لا تتحول الأمطار إلى فيضان مدمر مرة أخرى:
هل هذا تدبير خالق عظيم عليم حكيم يضع كالبشر رسماً مرئياً يذكره كي لا ينسى؟؟؟؟!!!! كل هذا يوضح أن التوراة كتبت بأسلوب بشري مبتدئ في ممارسة شؤون الدنيا ومعرفة قوانين الطبيعة. بينما كما رأينا نجد القرآن الكريم يقدم لنا قصة الطوفان بكل جلال وجمال وبلاغة، وبأسلوب إلهي يأخذ العقول والإحساس؛ فليس الإهلاك بالطوفان في القرآن إهلاكا عشوائيا ولكن هو إهلاك بحق وفي موضعه كما سلف القول.
قصة الطوفان من خلال المكتشفات الأثرية وأساطير الشعوب الأخرى
كان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن الماضي أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان ولكن الاكتشافات الأثرية الحديثة أثبتت غير ذلك ؛ حيث عثر علماء الآثار عام 1853م في العراق على نسخة من رواية الطوفان البابلية. وفي الفترة بين عامي 1889م، و1900م عثرت بعثة أثرية أمريكية في العراق في مدينة “نيبور ـ نفر” على لوح طيني يحتوي على قصة الطوفان السومرية تم تدوينه في الثلث الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد. وكانت القصة السومرية هي أقدم ما ورد إلينا عن الطوفان.
وهكذا فقد كتبت قصة الطوفان بواسطة السومريين الأوائل، ثم البابليين ومن بعدهم الآشوريين وبالطبع كان ذلك قبل التوراة وكتابها بأزمان غابرة. وكانت قصة ذلك الكشف الأثري حينما عثر على بعض الألواح الطينية التي دونت عليها القصة في نينوى وهي مكتبة الملك آشور بانيبال، وقد عثر عليها أثناء التحريات التي أجراها المتحف البريطاني في القرن التاسع عشر وعثر على الجزء الأول من القصة ومن ثم تتابعت الاكتشافات لتصل إلى القصة بكاملها.
وجد العالم جورج سميث قطعة من لوح طيني في مدينة نينوى يسرد فيها قصة الطوفان باللغة الآشورية. وقد تبين من خلال البحث والتقصي لسنوات طوال أن هذه القصة التي عثر عليها تشبه لحد كبير ما كتبته التوراة بعد ذلك بقرون كثيرة وقد أعلن سميث نتائجه في 3 كانون الأول من عام 1872م, ونشر البحث في مجلة الجمعية البريطانية في تموز من عام 1873م.
وقد أثارت النتائج التي أعلنها هذا العالم ضجة كبيرة جعلت القائمين على صحيفة (ديلي تلغراف) يقومون فوراً بعرض ألف جنيه لتمويل رحلته وتشجعيه للذهاب مرة أخرى إلى نينوى ليأتي بنصوص أخرى، وبالفعل قبل أمّناء المتحف البريطاني هذا العرض السخي في ذلك الوقت ومنحوا سميث أجازة لمدة 6 شهور، فرحل إلى نينوى واستأنف التنقيب وسرعان ما عثر على ألواح أخرى تخص قصة الطوفان وتؤكد ما سبق أن اكتشفه وتكاد تكون متكاملة وهي الآن محفوظة في المتحف البريطاني.والذي عثر عليه سميث كما أدرك هو نفسه لم يكن قصة الطوفان الأصلية بل نسخة من أصل أقدم وهي النسخة السومرية . وهنا يجب الإشارة أن أول من كتب قصة الطوفان ودونها على ظهر الأرض هو بلاد ما بين النهرين (العراق) وخصوصا السومريين.
ولا يقتصر ذكر الطوفان على حضارات الشرق الأوسط، ولكن يمكن وصفه بالحدث العالمي لكثرة انتشاره سواء بتفاصيل تقترب من الحادثة كما وصفتها الكتب السماوية والآثار السومرية والبابلية أو بتفاصيل يطغي عليها الخيال وتأثير البيئة التي حيكت فيها واختلاف الزمن.لقد وصلت قصص وأساطير الطوفان في العالم لأكثر من 500 أسطورة تحكي قصة الطوفان في جميع أنحاء العالم تنوعت مابين حكايات دينية وأساطير تاريخية وتراث شعبي. ويشير كتاب (أساطير الخلق في العالم( Creation Myths of the world) إلى أن أسطورة الطوفان لم تترك ثقافة أو حضارة أو بلدا إلا وتركت لها آثارا في حكاياتها الشعبية، حتى أنها وصلت إلى شعب الإسكيمو الساكن في أقصى الشمل الجليدي. ووجدت كذلك في الحضارات الإغريقية والرومانية … والديانات جميعها.وجميع هذه الدول أو الحضارات على الرغم من اختلافها في تفاصيل قصة الطوفان إلا أنها تشترك في عدة أمور أساسية هي في أحداث هذه القصة:
وهنا يجب الانتباه إلى أنه لا يمكن لكل هذه الشعوب والحضارات أن تفكر أو تخترع أسطورة من العدم؛ فهذه الشعوب تختلف حضارياً وثقافياً ومكانياً و زمنياً عن بعضها البعض لكنها برغم ذلك تحدثت جميعها عن الطوفان مما يدل على حقيقة حدوث القصة وانقلابها إلى أسطورة وانتشارها في العالم بسبب التنقلات والتجارة وخلافه.وسنذكر عدداً من قصص الطوفان التي وردت في حضارات وتراث الشعوب وأهمها بالطبع قصص الطوفان العراقية:
تعتبر قصة الطوفان السومرية التي اكتشفها علماء الآثار في العراق أقدم قصة عن الطوفان وصلت إلينا من العالم القديم، وقد دونت هذه القصة بالكتابة المسمارية .وتُعد أسطورة الطوفان السومرية حجر الأساس لقصص الطوفان التي شاعت في الحضارات القديمة.وعلى الرغم من الحالة السيئة التي وُجد عليها اللوح الفخاري الذي يحتوي على الأسطورة، ورغم تشوه النص ونقصه في معظم مواضعه حيث يمنع النقص الحاصل في بداية النص من حصولنا على فكرة واضحة عن مطلع الأسطورة.ولكن في الجزء الواضح يبدأ النص في الحديث عن خلق الإنسان وظهور خمس مدن إلى الوجود هي:، أريدو، باديتيرا، لاراك، شروباك. بعد ذلك تقرر الآلهة إفناء البشر بالطوفان فيلقى هذا القرار الممانعة من بعض شخصيات مجمع الآلهة.
وملخص قصة الطوفان طبقا للرواية السومرية أنه كان هناك ملكاً كاهناً يسمى”زيوسودرا” كان يوصف بالتقوى ويخاف من الله ويواظب على خدمته في تواضع وخشوع .ولكن مجمع آلهة السومريين ولسبب غير معروف قرر أن يرسل طوفاناً عظيماً يغرق جميع الأرض ويهلك كل كائن حي، ولكنه لم يكن هناك إجماع من كل الآلهة على هذا القرار الخطير، لذلك فإن أحد الآلهة وهو (أنكي) إله المياه العذبة الباطنية يقرر إنقاذ بذرة الحياة على الأرض؛فيقوم بإخبار الملك الكاهن الطيب(زيوسودرا) سراً بقرار الآلهة، ويخبره من خلف الجدار في حين أن (زيوسدرا) يستمع من الجانب الآخر للجدار، ويكشف الإله انكي ل”زيوسودرا” نوايا الآلهة بالطوفان ويعهد إليه ببناء سفينة كبيرة تحمل معها المجموعة الصالحة من البشر وبعض الحيوانات من كل زوجين اثنين بغرض الحفاظ على النسل الحيواني.
فيقوم “زيوسودرا” ببناء سفينة ثم يحمل فيها خاصته من الناس ويحمل بعض الحيوانات والطير من كل زوجين اثنين. ثم يحدث الفيضان عن طريق هطول مطر كثيف لمدة ستة أيام وستة ليالي فتغرق الأرض وما عليها من صنوف الحياة. وبعد توقف المطر يقوم “زيوسودرا” بإطلاق طيوره للتأكد من جفاف الأرض، ثم تنحسر المياه ويظهر (أوتو) إله الشمس لينير الأرض، ثم ترسو السفينة على سفح جبل (نيرير) بين نهري دجلة و الزاب الأسفل، ويقوم “زيوسودرا” بذبح ثور وعجل كأضاحي وقرابين لكل من الآلهة “آن” و”أنليل”. ثم تقوم الآلهة بتخليد “زيوسودرا” كمنقذ للبشرية، حيث يوصف بأنه الشخص الذي حافظ على الجنس البشري من خلال بنائه السفينة. ويتم نقل “زيوسودرا” إلى جنة (دلمون) ليكون أول بشر يحصل على الخلود ويعيش مع الآلهة. أما سبب قرار الآلهة بأخذ البشر بالطوفان في الرواية السومرية فغير معروف بسبب تهشم جزء كبير من اللوح الطيني الذي يحتوي على هذه القصة.
ويعتقد الكثير من المختصين في التاريخ والآثار أن طوفاناً حقيقياً حدث في أرض الرافدين في الفترة الواقعة بين (2800-3000 ق.م)، وهو تأريخ تخميني يرى البعض أنه أقرب إلى التأريخ الحقيقي، وأنه كان طوفانا مُدَمِراً لدرجة أن السكان المحليين اعتقدوا أنها كارثة شملت كل العالم الذي لم يكونوا يعرفون عنه أو منه إلا أجزاء صغيرة مُحيطة بهم . ولكني أرى أن هذا الطوفان قد حدث قبل ذلك بكثير، وأن أجيالهم تناقلت قصة ذلك الطوفان شفاهة ً إلى حين اختراع السومريين للكِتابة حيث قاموا بتسجيل روايتهم فوق الحجر بعد أن ألبسوها ثوباً أسطوريا.
ومن ذلك نستشف أن السومريين كانوا يعتقدون أن الطوفان قد شمل كل العالم كله وليس منطقتهم في أرض الرافدين فقط، وهذا التصور الخاطئ منهم بسبب اعتقادهم كشعب قديم جداً أن منطقتهم هي العالم آنذاك. ولكن اليهود العبرانيين قد نقلوا هذا التصور الخاطئ وأدخلوه في التوراة في حديثهم عن الطوفان مما يدل على أنهم قد اقتبسوا كل الأفكار المغلوطة للسومريين والبابليين في سردهم لقصة الطوفان. وهكذا يرى العلماء أن قصة الطوفان السومرية هي الأساس الذي بنيت عليه قصص الطوفان الأخرى.وإن كنت أرى انه رغم أسبقيتها إلا أن قصص الطوفان الأخرى ربما كانت صدى للطوفان الحقيقي الذي حدث.
وقد وردت قصة الطوفان البابلية في ملحمة جلجامش العراقية الشهيرة التي تعود للعصر البابلي حيث وجدت هذه الملحمة مكتوبة في مكتبة الملك أشور بانيبال في نينوى؛ ففي عام 1872م في الثالث من ديسمبر م أعلن عالم الآثار (سيدني سميث) نجاحه في جمع القطع المتناثرة من ملحمة جلجامش بعضها إلى بعض، مكتوبة على اثنى عشر لوحاً، ومحتوية على قصة الطوفان في لوحها الحادي عشر وهي بالطبع مأخوذة عن قصة الطوفان السومرية السابق ذكرها .كما توضح كسور فخارية أخرى من بوغاز كوي في تركيا أن هذه القصة قد ترجمت إلى اللغة الحيثية والحورية.
و تروي قصة الطوفان البابلية أنه في أثناء رحلة جلجامش الطويلة والمصاعب التي لاقاها بحثاً عن الحياة الأبدية والخلود أن جلجامش التقي برجل كُتب له الخلود وهو (أتو نبشتم) الذي يعني اسمه (لقد وجدت الحياة)، ويسأله جلجامش عن سر خلوده ونجاته من الموت فيروي له (أتو نبشتم) قصة الطوفان الشهيرة : “يا جلجامش سأفتح لك عن سر محجوب، نعم سأطلعك على سر من أسار الآلهة، (شروباك) المدينة التي تعرفها أنت، الواقعة على شاطئ الفرات، إن تلك المدينة قديمة وكانت الآلهة فيها، إن الآلهة العظام قد حملتهم قلوبهم على إحداث الطوفان”.
وسبب قرار الآلهة في إحداث الطوفان لأن البشر تكاثروا جداً وبدأ ضجيجهم يزعج الآلِهة، وتستمر القصة في الملحمة بأنه كان هناك إله خير من بين تلك الآلهة التي عزمت على الطوفان وقررت إغراق البشرية وأن هذا الإله الخير (أيا) عرف حماقة إفناء البشرية فابتدع وسيلة يمكن من خلالها أن يحذر إنساناً واحداً مفضلاً دون أن يخل بثقة الآلهة .ومن هنا أخبر أحد البشر المفضلين وكان هذا البشر (اوتو نبشتم) وطلب منه أن يبني سفينة ويحمل فيها من كل نوع من المخلوقات زوجين اثنين.
وبالفعل صنع اوتونبشتم السفينة أو الفلك والتي ورد وصفها في الملحمة بالتفصيل؛ فقد كانت سفينة عظيمة مكعبة الشكل حيث كان ارتفاعها يساوي طول ضلعها الطويل ومساحة قاعدتها تقرب من الأكر، وكانت مكونة من سبع طوابق، وكل طابق مكون من سبعة مقاصير، ومن هنا يرى البعض أنها كانت على شكل مكعب، ولكن يرى البعض أن هذا الوصف قد لا يعني بالضرورة أنها مكعبة فقد تكون الطوابق مدرجة وفي هذه الحالة سيبدو الفلك من حيث المقاييس والشكل وكأنه زقورة عائمة. وكان هناك باب أو كوة واحدة على الأقل وربما دفة أيضاً. واستخدمت كميات هائلة من القار في طلاء السفينة حتى تمنع الماء من النفاذ إلىها.
وعندما تم بناء السفينة حملها (أوتو نبشتم)، وعندما نزلت السفينة إلى الماء أصبح الثلث السفلي للسفينة في الماء، ووضع أوتو نبشتم عائلته وأقرباءه، والصناع، ووضع فيها ما لديه من ذهب وفضة ووضع المخلوقات التي تخيرها والتي تشمل مواشي وحيوانات الحقل. وعند إشارة معينة من إله الشمس دخل (أوتو نبشتم) السفينة مع ملاحه (بوزر أموري) حيث سلمه دفة السفينة وأغلق الباب وسد نوافذ السفينة وانتظر حدوث الفيضان.
وفي الصباح بدأت العاصفة؛ حيث كما ذكرت الملحمة علت غمامة ظلماء، وأرعد الإله (ادد) إله العواصف: “ولما ظهرت أنوار السحر..علت من الأفق البعيد غمامة ظلماء …وفي داخلها أرعد الإله أدد …وكان يسير أمامه (شلات، دخانيش) كنذيران في الجبال والسهول.. ونزع الإله (إيركال) الأعمدة، ثم أعقبه الإله (ننورتا) إله العالم السفلي الذي فتق السدود وفتح عيون الأرض… ورفع أل انوناكي المشاعل، وجعلوا الأرض تلتهب بوهج أنوارها، وبلغت رعود الإله ادد عنان السماء، فأحالت كل نور إلى ظلمة… وحتى الآلهة ذعروا من الطوفان وصعدوا للسماء… وصرخت عشتار كما تصرخ المرأة.
ومضت ستة أيام وسبع ليالي، ولم تزل زوابع الطوفان تعصف وقد غطت الزوابع الجنوبية البلاد، ولما حل اليوم السابع خفت شدة زوابع الطوفان..ثم هدأ البحر وسكنت العاصفة .. وتطلعت إلى الجو، فوجدت سكون عاماً، ورأيت البشر وقد عادوا جميعا إلى الطين …..”. واستطاع (اتونبشتم )(الذي يعادل نوح في الكتب السماوية) أن ينظر إلى كآبة المياه فكان البحر من جميع الجهات، ثم ظهر عدد من الجزر التي كانت تمثل قمم الجبال وعلى إحدى هذه القمم وهو جبل نيصير (Nisir) استقرت السفينة، ويُعرف الآن جبل نيصير باسم (بير عمران) أو (بيرة مكرون) وهو جبل ارتفاعه 8600 قدم شرقي نهر دجلة في حوض الزاب الأسفل.
وهكذا تصور لنا القصة أن الطوفان كان مدمرا وأن الدنيا أصبحت مفزعة لدرجة أن الآلهة نفسها ذعرت من الطوفان فانسحبوا وعرجوا إلى السماء، وحتى أن الآلهة بكوا بسبب ما حدث للبشر من غرق ودمار على حد قول الأسطورة. وانتظر اوتونبشتم سبعة أيام أخرى حتى تناقصت المياه ثم أطلق الطيور لتكشف حال الأرض؛ فقد أطلق أولاً حمامة فلم تجد موضعاً تحط عليه فعادت، ثم أطلق السنونو وعاد لأنه لم يجد مكان يحط عليه، وأخيراً أطلق الغراب فذهب ولم يعد… ففسر هذا بأنه علامة أكيدة على أن المياه انحسرت ولهذا نزل ومن معه من الفلك وقدم القرابين للآلهة تعبيراً عن الشكر وشم الآلهة رائحة الخشب المعطر.
وهنا قرر الإله أنليل أن يجعل اوتنوبشتم من الآلهة، وقال : “لم يكن اوتو نبشتم قبل الآن سوى بشر ولكن منذ الآن سيكون اوتونبشتم وزوجه مثلنا نحن الآلهة وسيعيش بعيداً عند فم الأنهار في مدينة دلمون”. (دلمون هي البحرين حالياً).. ولكن هناك أشياء تجعل قصة الطوفان البابلية متناقضة ومختلفة عن قصة نوح المعروفة مما قد يدعو إلى الاستنتاج أن هذه الملحمة نفسها قد تكون مستوحاة من قصص أخرى سبقتها وأن شخصية اتو نبشتم تختلف عن شخصية نوح الحقيقية رغم تطابق بعض الأشياء في القصتين البابلية والتوراتية؛ فالأشياء المتطابقة أهمها الطوفان نفسه، صنع السفينة، طلاء السفينة بالقار، نجاة نوح وعائلته، الغراب، وحمل الخمور على السفينة.
أما الاختلاف والتناقص: هو أن سفينة اتو نبشتم أصبحت فجأة تحت رحمة فيضان كبير جاء مفاجئ لينتهي بها المطاف في المياه المالحة، وهذا يعني أن التيار الشديد جرفها من نهر الفرات إلى بحر العرب، والتناقض هنا هو أن القصة البابلية تذكر أن السفينة استقرت على جبل نيصير، وهذا أمر يراه العلماء مستحيل لأن السفينة لا يمكنها أن تبحر ضد تيار جارف نحو المرتفعات، الشيء الذي يدل على أن القصة قد تكون هي نفسها مستوحاة من قصة أخرى سبقتها. كما أن ذلك يوضح لنا أن التوراة قد أخذت قصة الطوفان البابلية وبنت عليها قصة الطوفان المذكورة في التوراة.
أما الزمن الذي بقي فيه نوح ومن معه داخل السفينة طبقاً للتوراة وبعد حسابه نستنتج أنه كان لعدة أشهر أو ربما سنة وهذا غير معقول أبدا .بينما كانت المدة الكلية في النص السومري هو ستة أيام بلياليها وفي النص البابلي سبعة أيام بلياليها. ويذكر العلماء أن التوراة رغم توسعها في سرد قصة نوح والطوفان لم تذكر لنا المدينة التي عاش فيها سيدنا نوح ربما لأن الكاتب التوراتي كان يعلم أن بلاد العبرانيين (فلسطين أو إسرائيل) لم يحدث فيها أي طوفان تاريخي، ومع ذلك ومن الغريب أن كاتب التوراة قال أن الحمامة التي أطلقها سيدنا نوح في المرة الثانية عادت وفي منقارها غصن زيتون!!! مع أن شجرة الزيتون لم تكن معروفة في العراق وإنما هي من الأشجار الأصيلة في الشام وفلسطين، حيث أن الذين كتبوا التوراة من العبرانيين أردوا أن يعطوا روايتهم التوراتية صبغة الجغرافية العبرية لأن شجرة الزيتون معروفة في الشام وفلسطين ولم تكن معروفة في العراق القديم.وأصبحت الحمامة وغصن الزيتون في عالمنا اليوم رمزا للخير والأمان والسلام.كذلك نجد التشابه فيما ذكرته التوراة أن الله حاشاه تعالى قد ندم على إحداث الطوفان، وهذا مستمد من قصة الطوفان البابلية التي ذكرت أن الآلهة نفسها ذعرت من الطوفان فانسحبوا وعرجوا إلى السماء، وحتى أن الآلهة بكوا بسبب ما حدث للبشر من غرق ودمار على حد قول الأسطورة.
يقول معظم العلماء أن قصة الطوفان لم تذكر في الحضارة المصرية القديمة، وأنه رغم كثرة الأساطير التي وردت لنا من مصر القديمة فإنه لا يوجد بين هذه النصوص نص واحد عن قصة الطوفان.ولكن يجب العلم أنه وردت إشارة مرة واحدة إلى الطوفان في مصر القديمة مكتوبة في إحدى البرديات القديمة في الفصل 175 من كتاب الخروج في النهار في سياق حوار بين الإله آتوم والإله أوزوريس كالآتي:
أوزير: وماذا عن الزمن الذي سأقضيه هنا في العالم السفلي ؟
آتوم : ستحيا ملايين السنين، زمناً طويلاً إلى ما لا نهاية، لكنني سوف أدمر كل ما خلقته، فهذا العالم عليه العودة من حيث جاء، إلى المحيط الأزلي بالطوفان، لكني سأُبقِي على القليل منهم معك يا أوزير. وهكذا نجد كيف أن الإله آتوم قرر صراحة أن يعيد الأرض إلى أصلها الأول، ويغمرها بالطوفان، وأنه لن يكون هناك م الناجين سوى آتوم نفسه وأوزوريس ومن معه.لكن لسوء الحظ فإن جزء البردية الذي يتحدث عن الطوفان تالف وغير واضح. وربما لو كان باقي النص سليماً لكنا حصلنا على قصة الطوفان مكتملة.
كذلك هنالك أسطورة مصرية قديمة تتفق في مفهومها العام مع نموذج أسطورة الطوفان.. هذه الأسطورة تُسمى أسطورة “هلاك البشرية ” وملخصها أن الإله “رع ” إله الشمس شعر بأنه صار مسنًا، وأن رعيته من بني الإنسان يتآمرون على قتله، فاستنجد بالإلهة “حتحور ” التي تُسمى في هذه القصة “عين رع ” لتقضي على البشر جميعهم، و بعد أن بدأت حتحور عملها في إهلاك البشر، عزَّ على “رع ” ذلك، فدبر طريقة ينقذ بها من بقى من البشر، ويخلصهم من بطش هذه الإلهة، وتم له ذلك بمعونة شراب الجعة المحبب إلى قلبها، فاحتست منه حتى ثملت، وفقدت وعيها ونسيت ما تريده. وتفتقد هذه الأسطورة لبطل محدد يماثل الشخص الذي يقوم بعمل السفينة وإنقاذ البشر من الطوفان.
ومن ناحية أخرى ذكر الفيلسوف اليوناني أفلاطون أن كهنة المصريين قالوا لسولون( الحكيم اليوناني(ص88)إن السماء أرسلت طوفانا غير وجه الأرض فهلك البشر مرارا بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شيء من آثار السابقين ولا من معارفهم . وأورد مانيتون خبر طوفان حدث بعد هرمس الأول الذي كان بعد ميناس الأول، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضا.
في إحدى الأساطير الفارسية، ترد إشارة غير مفصلة إلى ذلك الطوفان مضمونها أن (أهرمن) كان يحارب (مِثرا) ويتعقبه بالمكر والخديعة، فأرسل “مِثرا ” طوفانًا إلى الأرض، فغرقت، ولم ينجُ سوى رجل واحد، حمل معه أسرته وبعض الحيوانات في مركب صغير، وقد قام هذا الرجل بتجديد الحياة على الأرض مرة أخرى، كما طهر الأرض بالنار، وتناول مع ملائكته الخبز طعام الوداع، ثم صعد إلى السماء، حيث قام بدور المرشد للأبرار، كما كان يعينهم على النجاة من حبائل الشيطان.
وفي تراث الهند الثقافي نجد ملحمة ورد فيها عن الطوفان ما يشبه إلى حد ما قصص بلاد الرافدين عن الطوفان. ففي الأسطورة الهندية (الشاتاباثا والماها باهارتا) نرى أن البطل (مانو) وهو المعادل لشخصية نوح عليه السلام أنقذ سمكة صغيرة، وعندما كبرت هذه السمكة وصارت سمكة عملاقة حفظت الجميل لمانو، ونصحت مانو ببناء سفينة نظرا لاقتراب حدوث طوفان مدمر، وعلمته كيف يصنع السفينة وأخبرته بمن يحملهم معه فيها، ولما حدث الطوفان ربط مانو السفينة إلى قرني السمكة العملاقة وقادت السمكة العملاقة السفينة وأرستها على جبل (هيسمافات) حتى نجا مانو ومن معه.
وسجل الصينيون حكايتهم حول الطوفان، حيث نجا رجل اسمه (ياو) مع سبعة آخرين في سفينة، وهم زوجته وثلاثة أبناء ومثلهم من الإناث، الذين نجوا من طوفان هائل دمر الأرض، وتذكر تلك الرواية أن ذلك الطوفان صاحبه هزات أرضية بحيث تفجرت المياه من كل مكان، وحملتهم السفينة ونجت بهم، وأن هؤلاء السبعة أعادوا تعمير الأرض.
يحكي الموروث الشعبي الروسي غواية الشيطان لزوجة نوح، التي أعدت شرابا مسكرا لزوجها ليبوح بسر صنعه للسفينة، وبذلك تسلل الشيطان إلى السفينة بمساعدة الزوجة الخائنة محاولاً إغراق السفينة بمن عليها.
هناك أسطورة يونانية عن الطوفان تقول أن كبير آلهة الأوليمب “زيوس” قرر تدمير العالم وإغراق الناس الأشرار فأرسل طوفانا عارماً لمدة تسعة أيام، قضى فيها على الجميع ما عدا (ديكليون) وزوجته (بيرا) اللذين لم يشاركا في الجرائم التي ارتكبها البشر على الأرض، ولذلك اختارهما زيوس وحذرهما من الطوفان فقاما ببناء سفينة أنقذتهما من الطوفان واستقرت بهما على جبل البرنا. وبعد أن انحسرت المياه بعد مرور تسعة أيام شعر الزوجان بالوحدة، فأخبرهما هيرمس أن يذهبا إلى وادي صخري، حيث أراد زيوس أن يعيدا الحياة فأمر الزوجين أن يقوما برمي الأحجار الصغيرة خلفهما فتحولت الأحجار إلى بشر ومخلوقات حية. وأصبح الرجل الناجي ملكاً على البشر وعلمهم الزراعة.
وفي التراث الشعبي الإفريقي تذكر حكاية من الكاميرون أن عنزة كانت تحب فتاة تحنو عليها، فأخبرت العنزة الفتاة بقرب حدوث طوفان، ونصحتها بمغادرة القرية هي وشقيقها قبل أن تغرق مع الباقين.
وفي تنزانيا يتناقل شعبها قصة فيضان الأنهار، وحدوث طوفان، وأن الرب نصح رجلين باستقلال سفينة بصحبة جميع أنواع البذور والحيوانات لإعادة تعمير الأرض.
ـ ومن هاواي التابعة للولايات المتحدة الأمريكية: تروي إحدى الحكايات الشعبية أن رجلا اسمه (نوـ يو) صنع زورقا كبيرا على شكل منزل وملأه بالحيوانات قبل أن يبدأ الطوفان ليدمر العالم الشرير، وينجو الرجل بصحبة عائلته.
كما سجل سكان أمريكا الشمالية، على طول شرقها وغربها، حكاياتهم عن الفيضان، فمثلاً تقول أسطورة “أنيشينابي” في منطقة البحيرات الكبرى، أن الطوفان جاء للقضاء على غطرسة شعب تلك المنطقة، ولم ينجُ إلا بطلهم القومي “نانابوزو” بصحبة بعض المخلوقات.
ونجد كذلك حضارة ( الانكا ) في أمريكا اللاتينية – 1100 سنة قبل الميلاد – كانت لهم قصة طوفان مفادها أن الإله(فيراكوتشا) – قد أغرق جميع البشر في بحيرة تيتيكاكا .. باستثناء اثنين من الصالحين الذين عادوا للعيش في الأرض.
هناك أساطير من أيرلندا التابعة لبريطاني عن ملكة أبحرت في سفينة مع مجموعة لمدة 7 سنوات ليتجنبوا الغرق نتيجة الطوفان الذي عم ايرلندا.
ومن شمال أوربا وهناك أسطورة الطوفان الإسكندنافية(الدنمارك، والنرويج، والسويد)حيث نجا(بلغامير) وعائلته هربا من الطوفان الأعظم في سفينة عملاقة.
أما أسطورة ليتوانيا بشمال أوربا أيضاً عن الطوفان فقد كانت أكثر طرافة حيث تتناسب مع جنوح خيال الليتوانيين حيث تقول أسطورتهم: أن قشرة بندق عملاقة أرسلها الخالق لنجاة الطيبين حملت قليلا من أزواج البشر والحيوانات، ورست بهم عند قمة أحد الجبال العالية.
وانتشار قصة الطوفان بهذه الطريقة وبكيفية الأحداث التي تتقارب في جوهرها على مستوى العالم وفي جميع الشعوب تقريبا وفي تواريخ مختلفة مع عدم وجود رابط بين تلك الشعوب في الجنس أو اللغة أوالدين ليثبت أن الطوفان حقيقة حدثت بالفعل، وأنه ليطرح سؤالاً هاماً وخطيراً وهو: هل كان الطوفان بالفعل عالمي وغمر جميع الأرض ومن هنا احتفظت البشرية بقصته مع مرور الزمن مع دخول شيء من الأسطورة على حقيقتها عبر الأجيال والأزمنة؟؟ أم أن الطوفان كان محليا ولكن ظلت قصته تنتقل من شعب لآخر عن طريق الهجرات والتجارة والتنقل مع مرور الزمن ويزكي هذا هو أن هذه القصص قد وردت بتواريخ مختلفة ومتباعدة مما يدل على أنها قد أخذت من أصل قديم لقصة الطوفان الحقيقية التي حدثت لقوم نوح عليه السلام في منطقة محلية ومنها انتشر الخبر عبر التنقلات والهجرات إلى تلك الشعوب التي استلمت قصة الطوفان وقام كل شعب بإعادة نسج القصة بما يتلاءم وطبيعته وثقافته وأفكاره وعصره. سنجيب على هذه الأسئلة في حينها من هذا البحث.
ولقد وصلت قصة الطوفان إلى الاسكيمو الذين يعيشون في الشمال الجليدي، حيث تروي أسطورتهم أن طوفاناً قديماً قضى على كل البشر ولم ينجُ منه سوى رجلين.
إن قصة طوفان نوح عليه الصلاة و السلام من بين القصص الأكثر بل هي الأكثر من بين القصص العالمية إثارة للخيال الإنساني في كل العالم منذ أقدم العصور. وكما رأينا فإنه لم تكتف الكتب السماوية وحدها( التوراة، الإنجيل و القرآن الكريم) بذكرها و ذكر تفاصيلها بل ذكرت في أساطير معظم الشعوب تقريبا كما رأينا. وتقريبا لم تخل منها ذاكرة من الشعوب إلا ما ندر حيث أننا نجد تقريبا 500 أسطورة حول الطوفان تنحدر من ذاكرة شعوب مختلفة تتحدث عن هذا الحدث الهائل المشهور منذ القدم.
وهذه القصة كانت ومازالت في بعض الأحيان من أسس التشكيك في الدين و في الوحي و في النبوات و في الكتب المقدسة، بل أن المتشككين والملحدين اعتبروها أسطورة و أكذوبة وعليه اعتبروا أن الديانات السماوية أكذوبة أيضا. ولم يكن الشك في قصة الطوفان وليد اليوم ولكن بدأ التشكيك في قصة الطوفان منذ عصور قديمة:
1- فنجد أحد فلاسفة الرومان في القرن الثاني لميلادي يقول : “كيف يعقل أن سفينة بهذا الحجم تحتوي علي كل أجناس الحيوان و الطير؟”. وبالطبع هو يتحدث عن الحجم المذكور في التوراة في سفر التكوين بشكل واضح و هذا بسبب الذين كتبوا التوراة، أو بمعنى أصح الذين حرفوا أجزاء من التوراة، وهي حسب هذه الكتابات كما ذكرنا آنفا سفينة بثلاث طوابق بطول 30 ذراعا في عرض 50 ذراعا في ارتفاع أو عمق 30 ذراعا. والذراع في التاريخ عند الشعوب الآسيوية و خاصة في غرب آسيا القديمة يساوي45 سنتيمتر.
إذن فحسب هذا فمساحة الطابق الأرضي للسفينة مع العلم أن سفينة نوح حسب التوراة أمر نوح أن يجعلها 3 طوابق (سفلي وعلوي ووسيط) نجدها تساوي92000 متر مربع مقسومة علي 3 و بالتالي فمساحة السفينة الكلية عندما نضرب في عدد الطوابق نجدها تساوي 92000متر مربع. ومن هنا يرى المتعقلون أن هذه المساحة التي وردت في التوراة لا يعقل أن تتسع لمئات الآلاف من الأنواع من الحيوانات و الحشرات و الطير، علماً بأن فصيلة العنكبوتيات وحدها يبلغ عددها ستة عشر ألف نوع. لذلك فهذا الفيلسوف الروماني كان على حق حيث استخدم العقل والعلم معا، مع الوضع في الاعتبار أن الحجم المذكور للسفينة ليس بالحجم الصغير بل هو حجم عملاق هائل بل هي أكبر سفينة في التاريخ حيث فاقت أكبر سفينة تاريخية موثقة في القرن الخامس الميلادي والتي تم إنشاؤها بأمر من الزعيم الصيني المشهور (زينغ هي).
و مع ذلك و مع هذا الحجم الهائل هي أصغر من أن تستطيع حمل كل الأجناس من الحيوانات والطير والنباتات الموجودة على كوكب الأرض، فهذا عقلاً مستحيل. ومن الغريب أن بعض المفسرين الإسلاميين للأسف اتبعوا الإسرائيليات التي وردت في التوراة وأخذوا معلوماتهم عن السفينة وحجمها مما ورد في التوراة مع أن القرآن الكريم وأحاديث النبي الصحيحة تخلو من أي إشارة لمقاييس حجم السفينة رغم وضوح ضخامتها في القرآن لكن بدون مقاييس. ومن هنا حدث الشك في قصة الطوفان لدى البعض أو ربما لدى الكثير.
وهذا يكشف لنا أوجه الدقة في القرآن الكريم وعدم تأثره بأي من الروايات التي وردت سابقا عن الطوفان وأنه لا يتعارض مع أسس التفكير العلمي السليم و مع مناهج و قواعد و قوانين الفيزياء .وفي الحقيقة كما سبق وذكرنا فإن المؤرخين يجمعوا على أن التوراة التي بين أيدينا الآن هي عبارة عن مجموعة من المخطوطات كُتِبَت من قِبَل العديد من الكتاب وليس من كاتب واحد أو مصدر واحد، وإنها على الأغلب قد جمعت في القرن الخامس قبل الميلاد أي بعد نزولها بأكثر من 800 سنة مما أتاح للرواة التحريف فيها بالنقص والزيادة ومخالفة الحقيقة لصالح الحكام والسياسة والأهواء.
2- و في القرن الخامس الميلادي تساءل القس الشهير (تيودوريت) كيف تسنى لنوح أن تجتمع لديه كل هذه الأنواع من المخلوقات من جميع أنحاء الأرض، و كيف جمع كل أشكال الحيوان علي وجه المعمورة؟ وأضاف أنه الآن في هذا العصر و مع هذا التقدم التكنولوجي الفائق فإن الإنسان لو أراد القيام بهذه العملية من جمع كل أجناس الحيوان من زوجين اثنين لكلفته عناءً كبيراً و يحتاج إلي مساحات هائلة ليحشر فيها ذكراً و أنثي من كل الأنواع النباتية و الحيوانية الموجودة، و كيف استطاع نوح أن يؤلف بين أنواع متباغضة من الحيوانات ؟ كيف استطاع أن يتصرف في غذائها خاصة و أن الماء لم ينسحب عن وجه الأرض و لم تبدأ الأرض في ابتلاع ماءها هذا حسب التوراة إلا بعد 150 يوما.وكيف تسني له إطعام كل هذه الأنواع من المخلوقات في فترة 150 يوما ؟ و ماذا فعل بفضلاتها؟
3-ـ كذلك ومن أسباب التشكيك في قصة الطوفان لدى المتشككين ما ذكرته التوراة و العياذ بالله من أن الله أصبح ينوح و يندب و يلعن الحظ بسبب ما أحدثه الطوفان من هلاك للبشر والمخلوقات، و أنه أخذ علي نفسه عهداً أن لا يهلك البشر مرة أخرى. كما تذكر التوراة أيضا أن الله نصب لنفسه علامة و العياذ بالله في الفضاء وهي قوس قزح حينما يراها يتذكر فعلته الشنيعة فلا يعود لها. وبالطبع فإن هذا الكلام الذي تذكره التوراة لا يتناسب مع جلال رب العزة ولا مع حكمته ولا مع علمه المطلق بكل النتائج. وقد جاء العلم بعد ذلك ليثبت أن العقل السليم والفكر المنطقي وقوانين الطبيعة وسنن الوجود كل ذلك يتنافر مع ما ذكرته التوراة من روايات.
حتى أن حتى عمر الأرض و تحديده المذكور في التوراة يختلف عما جاء به العلم الحديث ب 3600 ألف مرة. و الملحوظ أيضا أنه عند الرجوع إلي بعض الأقوال في كتب التفسير الديني الإسلامي لقصة الطوفان نجد فيها بعض الترهات و قد كذبها الإمام الألوسي رحمه الله واعتبرها أكاذيب وخزعبلات. و هذه الأقوال سببها بعض الإسرائيليات المنسوبة إلي رسول الله عليه الصلاة و السلام والتي نجد في سند روايتها يهوديا دخل الإسلام بعد وفاة رسول الله عليه السلام و والرسول بريء منها.
4- ومن أسباب التشكيك في قصة الطوفان أيضا هو ما روته التوراة من أن سيدنا نوح عندما أخذ من جميع المخلوقات من كل زوجين اثنين مع استحالة ذلك وأنه عندما دخلت هذه الحيوانات السفينة تأذت من الفئران فشكوا ذلك لنوح فأمر الله سبحانه و تعالي الأسد فعطس فخرج من كلا منخريه قطتان ذكر و أنثي فأكلا الفئران، وهذه الرواية الباطلة تتنافى مع منطق الأحداث في قصة الطوفان لأن الله أمر نوح أن يأخذ من كل شيء زوجين اثنين طبقا لرواية التوراة نفسها فكيف يتم التخلص من الفئران وهما زوجان اثنان مثل باقي الحيوانات؟ فعند التخلص منهما تتنافى الحكمة من قصة الطوفان في تعمير الأرض بسائر الحيوانات.
كما أنه من العجب أن تتأذى الحيوانات من الفئران وهي من أضعف الحيوانات مقارنة بالسباع والزواحف وغيرها. كما أنه من المفترض وجود زوجين اثنين من القطط فكيف يحتاجون أن يعطس الأسد ليخرج من منخريه قطط. إذن هذه تناقضات واضحة. و تعود التوراة لتقول، ثم تأذي أهل السفينة بفضلاتهم فأمر الله سبحانه و تعالي الفيل أن يعطس فعطس فخرج من منخريه خنزيرين ذكر و أنثي، فأكلا فضلات الناس، وهذا يعني أن نوح لم يأخذ معه زوجين من الخنازير وهذا يتناقض مع نص التوراة أن نوح أخذ من كل شيء زوجين اثنين من كل المخلوقات.ومن الغريب أيضا أن عددا من مفسري القرآن الكريم أخذوا عن التوراة هذه التفسيرات الغير منطقية وفسروا بها رغم عدم ورودها في القرآن ولا في السنة النبوية.
5- كذلك جاء بعض المتشككين من علماء التاريخ الجيولوجي وقالوا أن التاريخ الجيولوجي للأرض و العلم الجيولوجي يكذب أمر الطوفان الذي نتحدث عنه، ويقولون أنه قد تم وقوع فيضانات أو طوفان مرات كثيرة في الأرض. ومن ذلك نظرية طوفان البحر الأسود للتشكيك في حدوث الطوفان، وقد طرح هذه النظرية عالمان في الجيولوجيا البحرية من جامعة كولومبيا عام 1996م وهما العالمان (وليام ريان) و (التر بيتمان) حيث قالا أن أحدث الاكتشافات العلمية تدل على أن أعظم طوفان حدث على الأرض هو الطوفان الذي حدث في المنطقة الموجود بها البحر الأسود الذي يقع شمال تركيا، وأن البحر الأسود كان بحيرة مياه عذبة صغيرة نسبيا إذا ما قورنت بحجم البحر الأسود اليوم، وأنه بناء على ذلك الطوفان لم تبق مياه البحر الأسود عذبة بل تحولت إلى مالحة، والوادي الذي كان بين البحرين أصبح مضيق يسمى الآن البسفور.
وتحيط بالبحر الأسود الآن كل من تركيا وروسيا وأوكرانيا وأرمينيا.و تفترض هذه النظرية حدوث ارتفاع كارثي في مستوى البحر الأسود في حوالي عام 5600 قبل الميلاد حيث اكتسحت مياه البحر المتوسط مضيق البسفور بقوة مائتي ضعف شلالات نياجرا ودخلت البحر الأسود. وافترضا أن سكان المنطقة اضطروا إلى الفرار، بعد تدفق 40 ألف متر مكعب من المياه. وعلى مدى سنوات قام كل من العالمين (وليام ريان) و(التر بيتمان) وأخذا عينات ترسيبات من شواطئ البحر الأسود ومن مضيق البسفور، ووجدا أدلة قاطعة على أن مستوى البحر الأسود قد ارتفع مئات من الأقدام وغطى أكثر من 155، 000 كم مربع من الأراضي المحيطة، أي زيادة حجمه بثلاثين في المائة، وأن مستويات البحيرات قد انخفضت من خلال التبخر، وكانت بعض الصدفيات التي اكتشفت في الأراضي المغمورة لكائنات من البحر الأبيض المتوسط قد ماتت قبل 7600 سنة أي في عام 5600 قبل الميلاد. وقد عثر على أثار كأحجار لموقع سكن إنساني بالقرب من شاطئ تركيا الشمالي بالقرب من سينوب ويظهر أن الموقع المغمور كان جرفاً يطل على نهر قديم.واعتقد أصحاب هذه النظرية أن هذا الطوفان ترك تأثيرا في قصة الطوفان البابلية وكذلك في قصة الطوفان الواردة في الكتب السماوية.
ولكن للرد على ذلك نقول :أن هناك الكثير من الطوفانات حدثت في الكثير من الأماكن في العالم وبأشكال مختلفة وعلى مر العصور وما زالت تحدث، وأن نظرية طوفان البحر الأبيض على البحر الميت ليس لها علاقة بطوفان سيدنا نوح، لأن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أن الطوفان حدث بفعل انفجار عيون الأرض وهطول مطر غزير من السماء، وبالتالي فالطوفان حدث بماء عذب وليس بماء مالح، كما أن الله تعالى لم يذكر أن الطوفان قد حدث بارتفاع أية بحار أو طغيانها في أي من الآيات الكريمة التي ذكرت قصة الطوفان. كما أنه حدثت طوفانات كثيرة على مر العصور منها ما هو بسبب ذوبان الجليد في العصور الجليدية ومنها ما هو بسبب فيضانات البحار أو فيضانات الأنهار، ومن هنا فنظرية طوفان البحر الأبيض على الأسود قد تكون حدثت فعلاً ولكن ليس لها علاقة بطوفان سيدنا نوح ذو الطبيعة الخاصة.
6- ومن الأشياء التي تحدث شكوكاً وإنكاراً عند البعض هو عالمية الطوفان التي وردت في ظاهر التوراة؛ فالتوراة تقطع بأن الطوفان عم الأرض كلها و أن الله أهلك الحرث و النسل و لم يبق نفس و لا جسد فيه نفس إلا أهلكه الله إلا من كان في السفينة. ورأى العلماء وعدد من المتشككين أن عالمية الطوفان أمر مستحيل علمياً، ولم يثبت علميته، ومن هنا رفضوا القصة واعتبروها في عداد الأساطير.
ويقول أحد العلماء: “لو سألنا أي عالم في الهيدرولوجي المترولوجي، (علم الأرصاد و علم المياه)، سيقول لك أن هذا يكذب أي تفكير علمي دقيق و محترم، لأن كل متر مربع من الأرض يرتكز عليه عمود هواء يحمل بخار ماء بمعدل 16 كيلوجرام، و أقصي كيل يبلغه 25 كيلوجرام، أي 25 ألف جرام ترتكز علي كل متر مربع، أي بحجم 255 ألف جرام مكعب ترتكز علي متر الذي هو 10000 سنتمتر مربع، و عندما نقسم هذا علي هذه المساحة تخرج لك الإمكانية التي تحدد الحد الأقصى لو عم طوفان وجه الأرض حيث سيكون منسوب ارتفاع الماء 2,5 سنتمتر فقط (سنتيمتران ونصف) و ليس كما تقول التوراة أعلي من أعلى جبل بزيادة ذراع . فهذا الكلام يخالف إذن التصور العلمي لأن كمية المياه علي هذا الكوكب لا تسمح إن عم الطوفان الأرض كلها أن يرتفع منسوبها أكثر من 2,5 سنتيمتر. ثم علمياً و فرضاً أن هذا صحيح أين ذهبت كل الكمية الهائلة من المياه . فعلميا لا يمكن للأرض أن تشرب كل هذه الكمية فأين ذهبت هذه المياه” . ومن هنا يتم التشكيك في قصة الطوفان والتشكيك في الديانات السماوية استنادا إلي تلك الروايات التوراتية. ولكن في قرآننا الكريم النجاة من هذه التشكيكات كما رأينا في سرده لقصة الطوفان.
وأعقب أنا وأقول أن طوفان سيدنا نوح حقيقة نؤمن بها كمسلمين لأنها ذكرت في القرآن الكريم، كما يؤمن بها أصحاب الديانات السماوية. والأدلة على حدوث الطوفان هي:
1- أنه من المعروف أن الأساطير في الغالب تكون مبنية على حقائق وقعت قديماً ثم تتحول مع مرور الزمن إلى أسطورة بعد أن طول أيام روايتها، ويزيد كل جيل عليها من وحي خياله وقريحته إلى أن تلبس القصة الحقيقية ثوب الأسطورة.وهذا هو ما حدث مع قصة الطوفان ؛فمن كل الأساطير التي روتها الشعوب والتي ذكرناها عن الطوفان نجد مجموعة من التناقضان التي تثبت لنا أنها محرفة عن قصص أخرى، وأن تلك القصص بدورها تم نقلها عن مصدر واحد وهو قصة الطوفان الأصلية.
فمثلا السفينة التي وردت في قصة الطوفان البابلية انتهى بها المطاف في المياه المالحة، وهذا يعني أن التيار الشديد جرفها من نهر الفرات إلى بحر العرب، كما أن السفينة في قصة الطوفان البابلية استقرت على جبل نيصير، وهذا أمر مستحيل لأن السفينة لا يمكنها أن تبحر ضد تيار جارف نحو المرتفعات، الشيء الذي يؤكد أن القصة لا تروي واقعاً ولكن قصة محرفة عن أصل حقيقي صادق ولبست ثوب الأسطورة، خصوصا ـ من وجهة نظري أن الطوفان قد حدث قبل اختراع الإنسان للكتابة وبالتالي لم يستطع الإنسان تدوين قصة الطوفان في وقتها مما جعل الذاكرة البشرية تحتفظ بها في نقلها شفاهة مما أتاح للقصة دخول الحذف والزيادة عليها ودخولها في عالم الأساطير، ومن هنا فالقصة مصدرها واحد وتدل على انقلاب الواقع إلى أسطورة فيما بعد أو حتى خرافة أحيانا مثلما رأينا .وهي رغم تحولها إلى ميثولوجيا إلا أنها تحتفظ بجوهر القصة الحقيقية رغم ما شابها من خرافات.فهذا هو حال قصة الطوفان من وجهة نظري.
2- أن المكتشفات الأثرية في بلاد الرافدين حيث وجد العلماء نصوصا ً لرواية الطوفان اسبق من التوراة بمئات السنين وهي قصة الطوفان السومرية وقصة الطوفان البابليلة والأكدية كلها تثبت حدوث طوفان معين اتفقت عليه هذه الروايات.
3- أن انتشار قصة الطوفان بهذه الطريقة وبطرق مختلفة على مستوى العالم وفي جميع الشعوب تقريبا وفي تواريخ مختلفة مع عدم وجود رابط بين تلك الشعوب في الجنس أو اللغة أوالدين أو المكان أو الزمان ليثبت أن قصة الطوفان حقيقة حدثت بالفعل , ويزكي هذا هو أن هذه القصص قد وردت بتواريخ مختلفة ومتباعدة مما يدل على أنها قد أخذت من واحد أصل قديم لقصة الطوفان الحقيقية التي حدثت لقوم نوح عليه السلام وأن قصته ظلت تنتقل من شعب لآخر عن طريق التنقلات والهجرات والتجارة وعلى أزمنة متفاوتة.
لقد تأرجحت الأقوال في الطوفان إلى قولين اثنين: فيرى البعض أن الطوفان كان طوفاناً عالمياً وأغرق الأرض كلها متبعين بذلك ما قالته التوراة، وبعضهم اعتمد على تفسيره لآيات القرآن الكريم متأثرا بما قالته التوراة أيضا بفكرة عالمية الطوفان، والبعض أراد أن يثبت عالمية الطوفان بأن يلوي عنق الحقيقة العلمية. ويرى البعض الآخر أن الطوفان كان محلياً ولم يغرق إلا قوم نوح الذين كانوا يعيشون في منطقة جبلية مستندين على أدلة من القرآن والسنة وعلى المكتشفات الأثرية وعلى ما قاله العلم الحديث. وبناء على ذلك سنفند النظريتين.
1- أنهم استندوا على رواية التوراة ؛فجميع أسفار موسى الخمسة تقطع بأن الطوفان كان عالميا وعم الأرض كلها ومات كل ما على وجه الأرض حيث أهلك الحرث و النسل و لم يبق نفسا و لا جسدا فيه نفس إلا أهلكه الله باستثناء نوح ومن كان معه في السفينة! ويتكرر ذلك في أسفار التوراة؛ ففي سفر التكوين 6/7 “قال الرب أمحو الإنسان الذي خلقته عن وجه الأرض مع سائر الناس والحيوانات والزواحف وطيور السماء لأني حزنت أني خلقته” وفي التكوين 6/12 : “قال الإله لنوح قد أزفت نهاية البشر جميعاً أمامي لأنهم ملأوا الأرض ظلماً لذلك سأبيدهم مع الأرض” وفي التكوين 7/21 : “فمات كل كائن حي يتحرك على الأرض من طيور وبهائم ووحوش وزواحف” وفي التكوين 6/17: “فها أنا أغرق الأرض بطوفان من المياه لأبيد كل كائن حي فيها ممن تحت السماء كل ما على الأرض لابد أن يموت” وفي التكوين 7/4: “سأمحو عن وجه الأرض كل مخلوق حي” و يروي الإصحاح السابع: “(21)فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض، وجميع الناس. (22)كل ما في انفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. (23)فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء. فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. ” الإشكال هنا ما هذا الطوفان الذي عم الأرض و الذي حسب التوراة علا علي الجبال ب 15 ذراعا، وغمر وجه الأرض جميعها وقضى على كل بني البشر في ذلك الوقت، بل وعلى كل الكائنات الأخرى. ثم ابتدأت الحياة من جديد على الأرض بنزول نوح وأبنائه من السفينة وبنزول الحيوانات والطيور الأخرى التي كانت على متن السفينة.
وتقول التوراة كذلك أن العالم اليوم جميعه في كل بقاع الأرض هو من ذرية نوح عليه السلام، كما أن كل المخلوقات والكائنات (البرية على ما يبدو!) هي من ذرية الزوجين اللذين حُملا على سفينة نوح عليه السلام! وهكذا فإن التوراة صريحة جدا في عقيدة عالمية الطوفان وأنه شمل الأرض كلها. وللأسف كما ذكرنا فإن عددا من علماء الدين المسلمين الذين فسروا القرآن الكريم قد اعتمدوا على التوراة في كثير مما جاء بها عن قصة الطوفان ومنها عالمية الطوفان ومن هنا رأينا عددا من هؤلاء المفسرين يقولون أن الطوفان عم الكرة الأرضية كلها معتمدين على ما ذكرته كتب التوراة، مع العلم أن القرآن الكريم ليس به آية واحدة تدل على عالمية الطوفان.
2- كذلك استدل أصحاب نظرية عالمية الطوفان على ما ذكرته التوراة أن سيدنا نوح أخذ في السفينة من جميع المخلوقات من كل زوجين اثنين حتى يحتفظ بهذه الأنواع من الحيوانات بعد فناء أمثالها كلها من على وجه الأرض بعد الطوفان فقد ذكرت التوراة “(2)من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى. (3)ومن طيور السماء سبعة سبعة: ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض. (4)لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وجاء في سفر التكوين “فَتَدْخُلُ الْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، اثْنَيْنِ مِنْ كُلّ تُدْخِلُ إِلَى الْفُلْكِ لاسْتِبْقَائِهَا مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى. مِنَ الطُّيُورِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنَ الْبَهَائِمِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنْ كُلِّ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. اثْنَيْنِ مِنْ كُلّ تُدْخِلُ إِلَيْكَ لاسْتِبْقَائِهَا. ”
كما قال بنفس الرأي عدد من علماء المسلمين مستندين على تفسيرهم لآيات قرآنية في نفس الخصوص ومتأثرين بما قالته التوراة حيث استدلوا بالآيات القرآنية الكريمة في نفس الخصوص: قال تعالى “فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ”(المؤمنون 27)، وقوله تعالى “حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ” (سورة هود: 40) ومن هنا فسروا الآيتين بأن نوحا حمل في السفينة من كل زوجين اثنين من جميع المخلوقات من حيوانات وطيور وخلافه حتى يعمر الأرض بعد فناء هذه الكائنات بالطوفان واعتبروا هذه الآيات دليلا على عالمية الطوفان.
3- كذلك استدل عدد من العلماء المسلمين المتأثرين برواية التوراة على عالمية الطوفان بتفسيرهم لآيات قرآنية بأن الطوفان عم الأرض كلها وذلك بسبب ورود كلمة الأرض معرفة وليست نكرة في الآيات التي تحدثت عن الطوفان في قوله تعالى ” وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” (نوح الآية 26)، وكذلك قوله تعالى ” ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر .وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر”(سورة لقمان آية 11) وقالوا أن لفظ الأرض جاء مُعَرَّفاً بأل ليقصد بها الأرض كلها.
4- كذلك استند بعض أصحاب الرأي القائل بعالمية الطوفان بأنه يوجد بعض الأصداف والأسماك وبعض الحيوانات البحرية المتحجرة في أعالي الجبال وآثار الردم التي في أعالي الجبال، وهذه الأشياء مما لا تكون إلا في البحر وأن ظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء قد صعد إليها مرة من المرات، وأن ذلك لن يكون إلا إذا كان الماء قد عم الأرض من وجهة نظرهم، وأن ذلك قد حدث في طوفان سيدنا نوح طبقا لرأيهم.
ويرى فريق آخر وأنا منهم أن الطوفان كان محلياً في قوم سيدنا نوح فقط في المنطقة التي عاشوا فيها ولم يعم الأرض كلها للأسباب والدلائل القرآنية والعلمية الآتية:
أولا من القرآن الكريم والسنة النبوية:
1- ففي القرآن الكريم فإن المتأمل في الآيات التي ذكرت الطوفان يجد أن الطوفان لم يعم الأرض كلها، ولا توجد آية واحدة تدل على عموم الطوفان ؛فقد ورد ذكر نوح أكثر من أربعين مرة لم يذكر القرآن الكريم في أي واحدة منها أن الطوفان عم الأرض كلها، كما أنه لا توجد آية واحدة تفيد أن رسالة نوح كانت عامة للبشر جميعهم أو أن نوحا قد أرسل للعالمين.
2- أن سيدنا نوح لم تكن دعوته للعالم كله ولكن كانت دعوته لقومه فقط مثل سائر الرسل (ما عدا سيدنا محمد الذي كانت دعوته للناس عامة) والآيات القرآنية التي وردت في قصة نوح توضح أن نوحا أرسل لقومه فقط، وأن رسالته كانت لقومه فقط ولم تكن للناس أجمعين؛ فالله قالها في عدة مواضع أنه أرسل نوحا إلى قومه ولم يقل إلى الناس أو إلى العالمين قال تعالى: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ”(سورة العنكبوت آية 14). وقال تعالى “ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم”(الأعراف 599). وقال تعالى ” قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين”(الأعراف آية 61). وقال تعالى “ولقَدْ أرسَلْنا نُوحَاً إلى قَوْمِهِ إنِّي لَكُم نذيرٌ مُبِين”(هود 25).وقال تعالى “ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون” (المؤمنون 23). وقال تعالى “إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم”(نوح 1).
وقال تعالى أيضا: ” كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ {105} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ {106}إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {107}(الشعراء ). وقال تعالى عن قوم نوح :” إنّهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين “(الأنبياء77 ). وقال تعالى على لسان نوح: ” قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ {117} فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {118} فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ{119} ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ {120}(سورة الشعراء 117 ـ 120) . وقال تعالى : “كَذَّبَتْ قبْلُهُم قَوْمُ نُوح ٍ فَكَذّبوا عَبدَنَا وقَالُوا مَجْنُونٌ وازْدُجِرْ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)(سورة القمر). وكل هذه الآيات الكريمة تدل أن سيدنا نوح لم تكن رسالته للعالم أجمع ولكنها كانت لقومه فقط، والآيات التي سقناها واضحة في ذلك ولا لبس فيها.
كما أن القرآن الكريم حينما يتعرض لدعوة سيدنا محمد يقول رب العزة””وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”(سبأ 34/28 (وقال تعالى “وَمَا أرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين”( الأنبياء 107) . كما أنه ليس من المعقول أن سيدنا نوح عَبرَ البحار والمحيطات لجميع أقوام الأرض وبلغهم دعوته خصوصا في ذلك الزمن السحيق في القدم مع بدائية وسائل المواصلات، وعدم معرفة جغرافية الأرض في ذلك الزمن السحيق . وكذلك فإن الأحاديث النبوية تثبت بالقطع أن كل نبي أرسل فقط إلى قومه إلا الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام أرسل إلى الناس أجمعين ففي حديث الإمام احمد و غيره قال الرسول عليه الصلاة والسلام ) :وكان النبي يرسل إلى قومه خاصة و أرسلتُ إلى الناس عامة).
حتى في القرآن نجد أنه ما من نبي خاطب قومه أو شكا قومه إلا ذكرهم بكلمة قومه “يا قومي “إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فقد خاطب في مواضع كثيرة الناس أجمعين؛ حيث كان يقول”يا أيها الناس” . وبناء على أن سيدنا نوح لم تكن دعوته عالمية وكانت لقومه فقط فبالتالي يكون العذاب الذي أرسله الله تعالى بالطوفان خاصاً بقومه فقط، فلا يعقل أن يعمم الله تعالى العذاب بالطوفان على سائر البشر من الذين لم تصلهم رسالة نوح ودعوته، لأن ذلك يتناقض مع العدالة الإلهية وقد قال تعالى “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” (الإسراء 15)، فشرط العذاب على الأمم من الله تعالى هو أن يرسل لهم رسولا ثم يستمروا في عصيانهم وكفرهم.
هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات و الدبّابات المنتشرة على وجه الأرض، و كذا الطير في الهواء ممّا لا شأن لها و رسالات الأنبياء و لا يوجد سبب لأن يعمّها العذاب، و هو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان .الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ، ويثبت أن الطوفان كان محلياً وليس عالمياً. و موضوع الطوفان وعالميته عند اليهود من التبريرات اليهودية التي يربون أطفالهم على عقائد إلهيه تقول بان الله يبطش بالبشرية جمعاء بسبب ذنوب قوم معينين، و هذا ما سيجعل ممن تربى على هذه العقيدة طاغياً، أي انه يُحَمِّل الأبرياء أخطاء بعض الأشقياء.
3- كما أن الله تعالى يوضح كذلك بما لا يدع مجالاً للشك أن رسالة نوح لقومه وأخذهم بالعذاب كان شأنهم في ذلك شأن أمم أخرى مع أنبياء آخرين؛ فقد وردت قصة نوح عليه السلام في عدة مواضع من القرآن الكريم مقرونة بقصص الأنبياء الآخرين وأقوامهم دون وجود ما يميزها أو يدل أن قومه كانوا البشر جميعا؛ بل تؤكد الآيات أن نوحا عليه السلام كان نبياً قد جاء إلى قومه كباقي الأنبياء الذين جاءوا أقوامهم، وكانت رسالتهم مقصورة على أقوامهم، فلم يختلف خطاب القرآن الكريم حول قوم نوح عن غيرهم من الأقوام كقوم لوط، أو قوم هود، أو قوم صالح.
وهذه الآيات الكريمة تثبت أن قوم نوح لم يكونوا كل الأرض، ولكنهم كانوا قوماً مثل غيرهم من الذين حق عليهم العذاب؛ فهناك قوم عذبهم الله بأن أرسل إليهم حاصباً، أي ريح شديدة البرودة وهم قوم عاد أصحاب هود، وكذلك قوم لوط، ومنهم من أخذهم الله بالصيحة وهم قوم ثمود، وقوم خسف الله بهم الأرض وهو قارون، وقوم أغرقهم الله وهم قوم نوح وكذلك فرعون .
4- كذلك فإن الآيات التي ذكرت الطوفان نجدها كلها تدل على أن الطوفان كان مًحلياً وليس عالمياً ؛ يقول الله سبحانه و تعالى: ” فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِى ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ(الأعراف 64)، فالله سبحانه يقول “أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا٠٠٠” ولم يقل أغرقنا العالمين، أو لم يقل أغرقنا الناس أجمعين. وقال تعالى في سورة الفرقان “وَقَوْمَ نُوح ٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرَّسُلَ أغْرَقْنَاهُم وَجَعَلْنَاهُم لِلنَّاسِ آيَةً واعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً ألِيمَاً)(سورة الفرقان آية 37).ومن هذه الآية نفهم أن الإغراق بالطوفان كان لقوم نوح فقط، وأن الله جعلهم عبرة للناس، مما يدل أن هناك ناس آخرون كانوا موجودين في عهد سيدنا نوح لم تصلهم دعوته، ولم يصلهم الطوفان، وأنهم سيعلمون بالطوفان فيكون ذلك عبرة لهم. فكلمة ناس التي وردت في الآية لفظ عام يدخل فيه ناس عصره، أي أن الله جعل قوم نوح آية للناس الذين في عصره وأيضا آية لنا و للناس إلى يوم القيامة، وهذا من الأدلة الدامغة على أن الطوفان كان محلياً ولم يعم الأرض كلها إنما عم الأرض التي سكنها نوح عليه السلام و قومه.
5- كذلك هناك آية قرآنية تثبت وجود أقوام أخرى على ظهر الأرض معاصرين لسيدنا نوح لم يمسهم عذاب الله بالطوفان “قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48). تبين هذه الآية الكريمة أن هناك أقواما آخرين أيضا موجودين على سطح الأرض، لا علاقة لهم بما حدث مع نوح وقومه في وقت وقوع الطوفان، وهم ما زالوا متمتعين وينعمون ببركة الله تعالى وينتظرون اختبارهم وامتحانهم، فمن يعصِ الله تعالى منهم فسوف يمسه العذاب الأليم.
6- كذلك نجد الراهب والفيلسوف الإيطالي “جوردان برونو” الذي أحرقوه حياً سنة 600م و كان من ضمن التبريرات التي دونتها محكمة التفتيش لإحراقه حياً أنه أنكر عالمية الطوفان حيث قال : “لا يتسع عقلي و لا يتسع عقل أي بشر يحترم عقله أن الرب العظيم و الإله الكريم (هو لم يكن ملحدا)، يهلك البشر أجمعين من أجل ذنوب قوم أخطأوا و كفروا”. لماذا كل البشر؟
7- أما الذي استدل به أصحاب نظرية عالمية الطوفان من أن سيدنا نوح كلفه الله تعالى بأن يحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنين من جميع حيوانات ودواب وطيور الأرض مثلما ورد في التوراة التي تأثرت بقصة الطوفان السومرية والبابلية، وكذلك قال به عدد من علماء المسلمين الذين فسروا الآيات القرآنية في نفس الخصوص متأثرين بالتوراة فقد فسروها من كل زوجين اثنين من جميع حيوانات الأرض، فهذا التفسير خاطئ حيث من المستحيل أن يأمر الله تعالى نوحا أن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين من سائر أجناس الحيوانات على اختلاف أنواعها وأجناسها وفصائلها والتي تعد بالملايين وذلك من السباع والأغنام والأبقار والحمير والجمال والخيل والماعز و الزواحف والحشرات والطيور والهوام ……الخ، ومنها ما يعيش في مناطق حارة، ومنها ما يعيش في مناطق معتدلة، ومنها ما يعيش في مناطق قطبية شديدة البرودة، ومنها المستأنس ومنها المتوحش من السباع، كل ذلك مما يستحيل التعايش بينهم ومما يصعب السيطرة عليه، مع استحالة أن تستطيع السفينة أن تحمل ذلك كله مهما كان حجمها، ومع استحالة العناية بهذه الحيوانات وإحضار الطعام لها على اختلاف مأكلها وطريقة معيشتها والتخلص من فضلاتها…….الخ، مما يدل على أن المقصود من كل زوجين اثنين المذكورة في القرآن الكريم هو الحيوانات المستأنسة التي كان يستخدمها قوم سيدنا نوح في حياتهم اليومية من أغنام وماعز وخيل وطيور داجنة مما كانوا يستفيدون منه . كما أن الآية الكريمة التي وردت في القرآن الكريم”: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ”(المؤمنون 27).
فإنه كما قال عدد من العلماء أن لفظ “اسلك” الذي ورد في هذه الآية والذي معناه “أدخل” يدل على السهولة و السلاسة في عملية إدخال الحيوانات، و هي دلالة على أن الحيوانات كانت مستأنسه أي أنها الحيوانات التي يستطيع الإنسان بسهولة أن يأمرها بأن تدخل إلى السفينة من الغنم والبقر والدجاج والحمام والحصان والحمار فقط، كما أن لفظ “حتى إذا فار التنور فاسلك..” يدل على أن الأمر مقترن بفوران التنور و هي علامة تدل على سرعة الأمر (فاسلك) حيث الفاء هنا تفيد السرعة أي أنه بمجرد أن ترى التنور، و بالتالي تقتضي سرعة الدخول للسفينة بهذه الحيوانات أن تكون الحيوانات أليفه يسهل إدخالها إلى السفينة، و ذلك ما رجحه العلامة الألوسي رحمه الله، فليس من المعقول أن يتكلف سيدنا نوح المشقة والعناء لجلب كل أنواع الحيوانات من جميع الأصقاع النائية مما لا يستطيعه نوح عليه السلام لأنه مستحيل والأمر على قدر الاستطاعة، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإذا أمره أن يأخذ من كل زوجين اثنين فهو يأمره أن يأخذ من كل ما يجده ومن كل ما هو حوله زوجين اثنين , فالكل هنا المقصود به الكل الموجود والمتوفر وليس الكل المطلق، لأن هذا مما لا يطيقه ولا يقدر عليه سواء سيدنا نوح أو غيره.
ولنا أن نتخيل أن هذا لو حدث فعلا للزم أن تكون السفينة في حجم قارة من القارات لتستوعب زوجين (ذكرا وأنثى) من كل نوع من الدواب والحيوانات!! ولكن الملفت للنظر أن الصيغة القرآنية “مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ” تدل على أنه قد أُمر أن يأخذ جزءًا يسيرا من كل ما هو لديه من الحيوانات الأليفة التي ستفيده عندما ينحسر الطوفان، بل إنه لم يؤمر حتى بأخذ كل حيواناته وطيوره التي كانت معه في قومه، بل زوجين من كل منها. ويبدو أن سوء الفهم قد نشأ من الظن أن كلمة”كل” تعني كل شيء على وجه البسيطة بتأثير القصة التوراتية التي تجعل الطوفان غامرا لكل الأرض، بينما الصحيح أنها تعني كل ما يخصك أو كل ما لديك، أي أنها نسبية وليست مطلقة، مثلما فسر العلماء قوله تعالى عن ملكة سبأ: “إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” (النمل 24) فلا يمكن لنا أن نقول إن هذا يعني أنها قد أُوتيت من كل شيء بصفة مطلقة، بل أنها أوتيت من أسباب الملك أشياء كثيرة.
وكل ذلك يؤكد أن الطوفان كان مجرد طوفان محلي حدث في رقعة معينه من الأرض أي مجرد فيضان هائل مثل كل الفيضانات الكبرى التي شهدتها وتشهدها البشرية(مثال تسونامى)، وبالتالي فالماء الذي خلفه الطوفان قد عاد إلى الطبقة السفلية إلى الأرض ليغذى المائدة المائية.
8- أن الآيات التي استدل بها البعض بأن الطوفان قد عم الأرض جميعها حسب فهمهم مثل: “فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ {11} وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ {12)}سورة القمر)، وكذلك قوله تعالى على لسان نوح نفسه: ” وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” (نوح 26)؛ حيث قالوا أن كلمة الأرض جاءت مُعَرَّفة بالألف واللام دليل على أنها الأرض كلها، ولكن نقول لهم أن الألف واللام لا تعني الأرض كلها، بل تعني الأرض التي كان يعيش فيها نوح وقومه فقط، ودليل ذلك أنه ورد في القرآن الكريم على لسان يوسف الصديق ” قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(يوسف 55)، وكان يقصد بالأرض مصر، وقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى و هارون: “….وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ في الْأرْضِ…..)(23)يعني أرض مصر. وقوله تعالى” فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِىٓ أَبِىٓ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِى ۖ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ “(يوسف 80) ويقصد بالأرض هنا مصر أيضا.
وقال تعالى مخاطبا سيدنا محمد : ” وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا”(سورة الإسراء آية 76) فالمقصود هنا بالأرض مكة فقط وليس الأرض كلها، فهل الرسول مثلا كان يسكن الأرض جميعا أي في جميع القارات؟ بالطبع لا. و كذلك في قوله تعالى “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ”(الحج 63) أي الأرض التي نزل عليها المطر فقط هي التي تخضر وليست كل الأراضي، فهناك أرض صحراوية بطبيعة الحال وهي أرض مقفرة. وكذلك فإن دعاء سيدنا نوح على قومه الذي ورد في قوله تعالى “رب لا تذر على الأرض ..” هو دعاء على الكافرين الذين هم من قوم نوح الذين عايشهم ونصحهم ولم يستجيبوا لدعوته.
9- كذلك من الوجهة الأثرية والتاريخية حيث أنه تم اكتشاف أول قصص الطوفان في العراق القديم على يد علماء الآثار كما سلف ذكره يوضح لنا ذلك أن الطوفان كان محلياً، وحدث في منطقة بلاد الرافدين العراق وما حولها بدليل ورود أقدم قصص الطوفان في المكتشفات الأثرية بتلك المنطقة وهي قصة الطوفان السومرية وقصة الطوفان البابلية.
10- وهكذا فإن عقيدة رواة التوراة تأثروا في اعتقادهم بعالمية الطوفان وهذا مما يثبت أنهم تأثروا بقصة الطوفان السومرية والبابلية التي وردت من العراق القديم قبل التوراة بمئات السنين، حيث كان الطوفان الذي ذكرته القصتان السومرية والبابلية كان مُدَمِراً لدرجة أن السكان المحليين في العراق القديم اعتقدوا أنها كارثة شملت كل العالم الذي لم يكونوا يعرفون عنه أو منه إلا أجزاء صغيرة مُحيطة بهم . وقد تناقلت أجيالهم قصة ذلك الطوفان شفاهة ً لمدة آلاف من السنين إلى حين اختراع السومريين للكِتابة حيث قاموا بتسجيل روايتهم فوق الحجر بعد أن البسوها ثوباً أسطوريا وبعد ذلك أخذت عنهم التوراة فكرة عالمية الطوفان.
11- كذلك فإن عدداً من علماء الطبيعة يرون استحالة أن يكون الطوفان عالميا بل هو محليا؛ يقول أحد هؤلاء العلماء : ” لو سألنا أي عالم في الهيدرولوجي المترولوجي، (علم الأرصاد و علم المياه)، سيقول لك أن هذا يكذب أي تفكير علمي دقيق، لأن كل متر مربع من الأرض يرتكز عليه عمود هواء يحمل بخار ماء بمعدل 16 كيلوجرام و أقصي كيل يبلغه 25 كيلوجرام أي 25 ألف جرام ترتكز علي كل متر مربع، أي بحجم 25 ألف جرام مكعب ترتكز علي متر الذي هو 10000 سنتمتر مربع. و عندما نقسم هذا علي هذه المساحة تخرج لك الإمكانية التي تحدد الحد الأقصى لو عم الطوفان وجه الأرض حيث سيكون منسوب ارتفاع الماء 2,5 سنتمتر فقط (اثنا سنتيمتر ونصف فقط) و ليس كما تقول التوراة أنه أعلي من أعلى جبل بزيادة ذراع . فهذا الكلام يخالف إذن التصور العلمي لأن كمية المياه علي هذا الكوكب لا تسمح إن عم الطوفان الأرض كلها أن ترتفع منسوبها 2,5 سنتمتر.
ثم علمياً و فرضاً أن هذا صحيح أين ذهبت كل الكمية الهائلة من المياه. فعلمياً لا يمكن للأرض أن تشرب كل هذه الكمية فأين ذهبت هذه المياه. و يقول آخر :أنّ الحاسبات العلمية الدقيقة تعطينا : أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً و هطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأن تغمر و تعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سنتيمترات، فكيف بجبال شامخات ؟!يقول الدكتور «شفا» : لو كانتِ السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً ـ كما هو نصّ التوراة ـ لما يستطيع أن يغمر هَضبة ما بين النهرين ـ على صغرها ـ فكيف يغمر وجه الأرض و يعلو قمم الجبال ؟! مع العلم أن جبل « آراراط » الذي يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة ؟!!
12- كذلك أن النظرية العلمية التي استدل بها من يرون أن الطوفان كان عالمياً وهي وجود الأصداف والحيوانات البحرية والأسماك المتحجرة في قمم الجبال، فقد قال آخرون أن ذلك لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان، بل الأقرب أنه من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ذلك، أي أنه من المحتمل الأقرب للصواب أنها من بقايا رسوبية كانت يوماً مّا تحت البحر و على ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجية و التمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل و غيرها هي التي أوجبت تغّيراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعد ما كان مغموراً تحت سطح البحر حيث ارتفع بما كان عليه من كائنات بحرية، ومع مرور الزمن تحجرت، ومنها ما انغمر بعد ما كان عالياً، و هذه تعرجّات حدثت على الأرض و لا سيّما في الفترات الأولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض، وبالتالي ليست دليلا على عالمية الطوفان.
13- كذلك رأرى بعض من قالوا أن الطوفان كان محلياً أن الطوفان قد حدث منذ زمن بعيد جداً وأنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه ـ«وهو في أوّليات حياة البشر» ـ و إنهّم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق غير ذرّيته. و هذا يقضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها و جبالها، لا في الأرض كلّها . إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب ذلك العهد ببداية تكوين الأرض كيابسة وببداية وجود البشر عليها حيث أن علماء التكوين و طبقات الأرض (الجيولوجية) يقولون : إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثمّ صارت كرة مائية، ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج، و بذلك ظهر عدم دلالة الآية ” وَجَعَلْنَا ذُرِّيتَهُ هُمْ الْبَاقِين” على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدودية نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) و عدم الانتشار في أقطار الأرض . و لا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التاريخ القريب و لا مستند لها .وكل هذا يثبت محلية الطوفان ولا مجال لجعل الطوفان عالميا عم جميع الأرض فنظرية عالمية الطوفان لا أساس لها ولا سند ولكنها من اختلاق رواة التوراة الذين تأثروا بقصص الطوفان العراقية القديمة وهي قصة الطوفان السومرية والبابلية.
14- وأخيراً أن اليهود من مصلحتهم التمسك بنظرية عالمية الطوفان رغم كذبها لأن هدم هذه النظرية سيهدم الكثير مما ورد في التوراة من تحريفات وبالتالي هدم التوراة الحالية… ووفقا للبيان القرآني المتكرر في مواضع متعددة، فإن قوم نوح عليه السلام كانوا قوما يعيشون في منطقة جبلية محدودة يبدو أنها الواقعة في شمال العراق الحالي وجنوب تركيا وما حولها.
تشير الدلائل، ويرى كثير من العلماء أن الطوفان قد حدث في بلاد الرافدين أي ما يسمى منطقة بلاد مابين النهرين وما حولها أي أنه حدث في منطقة العراق وتركيا وجزء من إيران، ودليل ذلك هو أن أول قصص للطوفان جاءت إلينا من حضارة العراق القديم في قصة الطوفان السومرية وقصة الطوفان البابلية وذلك منذ أكثر من خمسة آلاف عام ؛حيث وردت هاتان القصتان على ألواح من الطين اكتشفها علماء الآثار كما سلف القول. وقد أقتنع عالم الآثار وولي في أنه إذا نقب عميقاً تحت مدينة أور العراقية، فربما يلقي رواسب الطوفان وغرينه المنتشر عبر الأراضي حينما غرقت مناطق دلتا نهري دجلة والفرات.
وبعد خمسة سنوات من الحفر عمودياً وصل إلى المقابر الملكية واستمر في خطته بشكل أعمق إلى أن وصل إلى أوائل مستوطني جنوب العراق . كما وصل أثناء دراسته لهذه الطبقات إلى الدليل المادي على حدوث الفيضان العظيم في المنطقة، متمثلاً بعمق عشرة أقدام متصلة من الغرين المحمول بواسطة الماء وخال من أي شئ من صنع الإنسان . وكان الغرين يغطي منازل ومعابد. كما وجد في السهل الريفي المحيط بالمنطقة أن السُّمْك الكبير لهذا الراسب المجدب، دليل على فيضان واسع النطاق.
لكن مع ذلك يرى أحد العلماء المصريين وهو عالم الجيولوجيا الدكتور محمد البسطويسي الأستاذ المشارك بجامعة أم القري بالمملكة العربية السعودية، بأن الطوفان قد حدث في شبه الجزيرة العربية. ويقول أنه اعتمد بالأدلة العلمية على الدراسات الهيدرولوجية بتحليل صور الأقمار الصناعية وأكد أن البحث لم يتطرق لتحديد مكان رسو السفينة ولكن تمكن من رسم خريطة دقيقة توضح المناطق التي غمرتها مياه الطوفان ومساراتها وكذلك مكان البركان الدال على بدء الطوفان “التنور”، مشيرا إلى أن التحليلات المختلفة التي أجريت على هذه الرسوبيات في أماكن مختلفة من الجزيرة العربية تدل على أن الطوفان حدث خلال الفترة من 11 ألف سنة حتى 8650 سنة مضت.
وأشار إلى أن نقطة البداية للاستدلال على مكان الطوفان تناولت البحث عن ” التنور” أو البركان الذي ورد ذكره في القرآن الكريم علي صور الأقمار الصناعية، مشيرا إلى أن فوران ذلك البركان كان الإشارة الإلهية على بدء الطوفان العظيم، وبالتالي فإن الماء المنهمر من السماء أثر على شكل الطفوح البركانية، وعمل على تآكلها بشكل كبير، ولم يتبق منها سوى حواف بركانية بارزة يفصل بينها أخاديد غائرة إلى السطح الأصلي للصخور قبل الطفح البركاني. وأضاف أنه نتيجة لهذا الطوفان تكونت بحيرة هائلة زادت مساحتها عن مليون كيلومتر مربع، وكانت محصورة بين سلاسل جبال الحجاز في الغرب وحاجز جبال طويق الممتدة طولياً بوسط المملكة العربية السعودية قبل أن يتم تقطيع أوصال حاجز جبال طويق من فيضان البحيرة الهائلة عند عدة أماكن متباعدة.
وأوضح الدكتور محمد البسطويسي أن هذه المنطقة تنحدر من الجنوب عند ارتفاع ألف متر تقريبا فوق مستوى سطح البحر إلى الشمال حتى منخفض الأزرق في الشام عند ارتفاع 570 مترا، لافتا النظر إلى أن رسوبيات هذه البحيرة والأذرع المائية المنسابة منها انتشرت في وسط وشرق المملكة العربية السعودية وحوض الهلال الخصيب في شرق سوريا و دولة العراق. لذلك فآثار الطوفان امتدت إلى العراق. وأكد انه من الثابت تاريخياً أن أسطورة الطوفان التي كتبها السومريون منذ عدة آلاف سنة قبل الميلاد تعد أقدم النصوص الأثرية التي تروي قصة الطوفان، وذلك بعد حدوثها أيضا ببضعة آلاف من السنين ما يدل على أن حضارات بلاد الرافدين القديمة بدأت بعدما غطى الطوفان معظم الجزيرة العربية، واستقرت السفينة على جبل “الجودي” كما ذكر القرآن الكريم.وطبقا لهذا الرأي فإن سيدنا نوح لم يسكن العراق ولكن سكن الجزيرة العربية.
وقال أن السفينة رست على الجودي بعد انحسار الطوفان، وأن الجودي من وجهة نظر البسطويسي في اللغة العربية هو أحد أسماء الجبل، وأنه قد يكون جبلاً بعينه. وأن يتداول الناس أن السفينة رست على جبل اسمه أرارات وأن هذا مأخوذ من الإسرائيليات، وأن كثيراً من الناس يعتقدون أن هذا الجبل يقع في أرمينيا إلى الشرق من تركيا، ولكنه يرى أنه يقع في الشمال من مكة حيث يوجد موقع يسمى (السفينة ـ صفينة) يقع على جبل في سلسلة جبال تسمى (الحرّات ـ حررات ـ آرارات) وهي جبال بركانية ممتدة إلى الشرق من مكة حتى شمالها، ومن هنا من وجهة نظره يرى أن جبل السفينة (صفينة) هو الجبل الذي انطلقت منه سفينة نوح لذلك احتفظت هذه المنطقة باسمها وعلمنا أن المقصود بكلمة (أرارات) التوراتية هو (الحرّات) (بتشديد الراء)، ويضيف أنه إذا علمنا أيضاً أن أرارات معناها الغضب في اللغة الأرامية ومعناها النار بالأرمينية حصلنا على التطابق لأنه بهذا يكون نوح قد غادر من الحرات بالفعل وهي الأرض المعذبة ذات البركان الناري الثائر .مما يعني أن الطوفان حدث في الجيرة العربية. وطبقا لهذا الرأي فإن سيدنا نوح كان يسكن في وسط جزيرة العرب وأن الطوفان بدأ أو حدث فيها.
هل سفينة نوح مازالت موجودة وأين مكانها؟
ويتبادر للذهن سؤال هام :هل سفينة نوح مازالت موجودة أو هل لها بقايا مازالت موجودة؟ وإن كانت موجودة فأين مكانها؟ وهل تم العثور عليها؟ يذكر القرآن الكريم أن سفينة نوح عليه السلام لا تزال باقية كآية للناس وذكرى؛حيث جاء في سورة العنكبوت: “فأنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِين” (سورة العنكبوت 15). و قوله تعالى “ولقد تركناها آية فهل من مدكر” (سورة القمر آية 15)، وقوله تعالى : “إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَان أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ” (سورة الشعراء 121)، قال قتادة أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أوائل هذه الأمة . وقال عبد ابن حميد: “أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة”. وجاء في الدر المنثور للسيوطي: قال قتادة في تفسير الآية ” وجعلناها آية للعالمين ” قال: أبقاها الله آية فهي على الجودي. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : “لنجعلها لكم تذكرة” قال: لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته أمة محمد فرأوه كانت ألواحها ترى على الجودي.
لقد حدد القرآن الكريم مكان رسو سفينة سيدنا نوح على الجودي حيث ذكرت كلمة الجودي مرة واحدة في القرآن الكريم: (وقِيلَ يا أرضُ ابْلَعِي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعِي وغِيضَ الماءُ وقُضِي الأمرُ واسْتَوَتْ على الجُودي وقِيل بُعْداً للقَوْمِ الظَّالِمين) (سورة هود 44)، والجودي حسب ما ذكره أغلب المفسرين هو جبل يقع في ناحية الموصل شمالي العراق على حدودها القريبة من تركيا، ومن مقاطعة أرمينية في تركيا على حدودها المشتركة مع إيران(أي في اتجاه الموصل).
ويرى البعض أن الجودي ليس جبلاً وإنما هو موضع أو منطقة. والموصل هي محافظة عراقية تقع في الحدود مع العراق وتركيا في الشمال الغربي للعراق والجنوب الشرقي لتركيا. ويقول أبو إسحاق الزجاج أن الجودي هو جبل بآمد، وآمد هي أكبر وأشهر مدينة في جنوب شرق تركيا، وقد أطلق عليها العرب لاحقاً اسم ديار بكر. كما جاء ذكر الجودي في كتاب الحسن بن أحمد الهمداني المتوفي سنة 360هجرية 970 ميلادية فقال: “إن أردت أرض الموصل مررت بتكريت وكان الثرثار عن يمينك وأكثر أهل الموصل مذحج وهي ربيعة فإن تياسرت منها وقعت في الجبل المسمى بالجودي يسكنه ربيعة وخلفه الأكراد وخلف الأكراد الأرمن وإن تيامنت من الموصل تريد بغداد لقيتك الحديثة وجبل بارما يسمى اليوم حمرين”.
وقيل عن أصل الجودي: وفقا لما جاء في (خلاصة تاريخ الكردستان من أقدم العصور) قد ذهب السياسي الكردي محمد أمين زكي في هذا الكتاب صفحة 81 إلى أن لفظ جودي جاء من كلمة (كوتي – جوتي) لأن ناقليها العرب ينطقون حرفي (g، ك) جيمًا فيقولون (إنكليزي، إنجليزي) كما أنه لا تخفى القرابة بين حرفي (د) و(ت) في المخرج، وعلى هذا المنوال ذكر لفظ (كوتي) التاريخي في الكتب العربية أل (جودي)، وبناءً على هذا التخريج يكون معنى جبل أل(جودي) جبل أل (كوتي، كورتي، كردي)، و لفظ الجودي كان مستعملاً كذلك في تسمية السومريين للأكراد ثم جاء بعدهم اليونانيون والرومان الذين أطلقوا عليهم اسم كاردوك أو كاردوكي.
ما يستدل على أن السفينة رست على الجودي
1- قال تعالى:”يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِمَّن مَعَك”(هود 48)فإذا علمنا أن جبل الجودي يتبع بلاد الشام تضاريسيا قبل أن يتم ضمه لتركيا كحدود سياسية بموجب اتفاقية لوزان، وأن الله تعالى قد جعل بلاد الشام بلاد مباركة في القرآن الكريم “سُبْحَانَ الَّذَّي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً من المَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الذَّي بَارَكْنَا حَوْلَه” (الإسراء 1).وبناء عليه يكون الجودي مرشحاً قويا لرسو سفينة نوح.
2- أن القرآن الكريم يقول عن سفينة نوح أنها رست على الجودي: “واسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيّ”(هود 44) ونفهم من هذا أن هذا الجبل له قمة مستطيلة وانحدار لطيف يجعل السفينة الضخمة مستوية على سطحه وموازية، وليس جبلا بقمة ضيقة وانحدار شديد يجعل السفينة تميل ولا تستوي. وبالفعل فإن جبل الجودي له قمة مستطيلة ومن هنا فهو مرشح جغرافيا وبشكل قوي.
3- وجد بالقرب من جبل الجودي عدد من مراسي السفينة وهي مراسي كبيرة جداً تناسب سفينة ضخمة تحمل حمولة كبيرة مثلما جاء في القرآن الكريم والتي وصفها ب”الفلك المشحون”.
4- كما أن العلماء قالوا بأنهم قاموا بتحليل ما رأوه أنه مادة من هيكل السفينة على الجودي بالكربون المشع وقالوا أن النتائج أعطتهم زمناً للسفينة متقارباً من الزمن الذي عاش فيه نوح عليه السلام.
وذكرت التوراة “سفر التكوين 8/4” أن سفينة نوح رست على (أراراط): “واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبل أراراط”. وقد قال بعض الباحثين أن أراراط هي كلمة عبرية توراتية تعني”أرمينية” نفسها (أراراط في المعجم العبري “هملون هحداش لتناخ”)، وبالتالي حسب هذا الرأي فإن سفر التكوين لم يسم جبلا بعينه لمرسى سفينة نوح وإنما قال أنها رست على “جبال أرمينية”، ولكن الناس تناسوا هذا أو نسوه فتوهموا أن هناك جبلا بعينه اسمه (أراراط) قد رست عليه السفينة، وأن رحالة عثروا في قمته على حطام رجحوا أنه حطام سفينة نوح. ولكن التسمية ثبتت منذ ذلك. وأصبحنا نجدها في المعاجم الأوروبية عَلَماً على جبل بعينه في أرمينية شرقي تركيا قرب حدود أرمينية المشتركة مع إيران، ويبلغ ارتفاع إحدى قمتيه حوالي 5128 مترا. ومن هنا قال بعض المستشرقين بدون علم دقيق أن القرآن قال (الجودي)، وقالت التوراة (أراراط). ولكن التوراة لم تقل (أراراط) كما ذكرنا وإنما قالت (جبل من جبال أراراط) أي جبل من جبال أرمينية ولم تذكر له اسماً ولكن سماه القرآن. وعلى ذلك ومن وجهة نظر هذا الرأي لا خلاف بين التوراة والقرآن في تسمية مرسى نوح لا لأنهما تطابقا، وإنما لأن التوراة عَمَّمَتْ وخصَّص القرآن. كما ادعى باحثون إسلاميون تحديد موقعه في اليمن، وقيل في شبه الجزيرة العربية، وقيل في تفسير الجودي ومعناه غير ذلك مما لا يهم ذكره.
وقد حدث ولع لبعض أصحاب الديانات السماوية في البحث عن سفينة سيدنا نوح؛حيث نجد أن بعض البروتستانت المسيحيين منذ أواخر القرن التاسع عشر الذين كانوا أكثر شغفا في إثبات حرفية القصة المذكورة في التوراة فزعم بعضهم العثور عليها في تركيا على جبل أراراط وهو أعلى قمة جبلية بتركيا أو أرمينيا.
وفي القرن الواحد والعشرين استمر الولع القديم بموقع سفينة نوح وخاصة بعد انتشار صور تم التقاطها عبر الأقمار الصناعية لنتوء في قمة جبل آراراط حيث بدأ الولع القديم يأخذ اتجاهاً جديداً بعد أن أعلن رجل أعمال ثري اسمه دانيال مك كيفرن Daniel McGivern عن منحة مبلغ مالي قدره 900000 دولار لأي فريق علمي يقوم بالبحث عن السفينة ولكن مجلة National Geographic استبعد أن تكون الصورة الجديدة صورة حقيقية. وفي الثمانينيات قام رائد الفضاء السابق جيمس أيرون James Irwin بحملة جديدة لكنه لم يعثر على شيء. وفي 17 يونيو 2004 أعلنت إحدى البعثات أنهم اكتشفوا السفينة وقدمت المجموعة صوراً ومخططات عن بعثتهم، إلا أن نتائج هذه البعثة لا تزال مرفوضة من قبل المجتمع العلمي. وهناك من يحاول أن يثبت بالأدلة التاريخية وجود سفينة نوح عليه السلام في مدينة مكة المكرمة على جبل الجودي (جودا)، وقالوا بأن الجودي في مكة وليس في بالموصل في العراق.وهذا الرأي ينفي نفياً قاطعاً أن السفينة رست على جبل أراراط، لأنه جبل السخط واللعنة باللغة الآرامية، وباللغة الأرمينية جبل النار، ويرون أن هذا يتعارض مع طلب نوح عليه السلام من رب العزة “وَقُلْ رَبِّ أنزلني مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلين”(المؤمنون 29).وهكذا فإننا مازلنا نحتاج لاكتشافات أثرية أخرى تنير لنا أكثر طريق البحث عن الطوفان وسفينة نوح.
 

ليست هناك تعليقات

جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند)

جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند) هي دولة أعلنت استقلالها عن الصومال في عام 1991 عقب اندلاع الحرب الأهلية الصومالية. لكن لم يتم الاعتراف بها ...