مدافن الموتى.. رحلة الجسد بعد الموت



أينما يممنا وجوهنا شرقا وغربا سنجد من يحدثنا عن رحلة الروح بعد الموت ، فالأديان تجمع على أهمية الروح، فهي التي تحاسب، تثاب أو تعاقب، ثم تمضي إلى نعيم أو جحيم، أما الجسد فيقبع في القبر بلا أهمية، فهو لا محالة عائد إلى عناصره الأولية، ولن يتبقى منه في النهاية، من كل ذلك الكبر والغرور، سوى حفنة تراب!. بيد أن الناس لا تفكر في أرواحها قدر تفكرها في أجسادها، فالروح من علم الغيب، أما الجسد فهو ذات الإنسان وكيانه الذي عاش معه وأهتم لسلامته طيلة حياته، وهو الذي سيبقى في النهاية وحيدا يتعفن ببطء في ظلمات القبور. وبسبب الأهمية الكبرى التي يوليها البشر لأجسادهم، قررنا أن نترك الروح في حالها، لأنها من شأن بارئها، وعزمنا على ملاحقة الجسد في رحلته الأخيرة نحو الفناء، فمن الجيد أن يعرف الإنسان أي درب سيطوي إذا أزف وقت الرحيل.

الكتب المقدسة حدثتنا عن أول الأموات، هابيل أبن آدم، الشقيق الذي راح ضحية مشاعر الحسد والغيرة المتأججة في قلب شقيقه فأضحى بذلك أول قتيل في التاريخ، ولعلها ليست من باب الصدف أن يبدأ تاريخ البشر مع الموت بجريمة قتل، بل هي حتما توطئة ومقدمة لصراع طويل بين الخير والشر سيستمر فوق هذه الأرض إلى ما شاء الله ولنفس أسباب الجريمة الأولى .. الحسد والغيرة .. ونحن هنا لسنا بصدد التطرق إلى تفاصيل قصة هابيل وقابيل، فهي معروفة لمعظم الناس، لكن الذي يعنينا منها، هو حيرة القاتل وتخبطه في كيفية التخلص مع جثة القتيل، فقابيل لم ير ميتا ولا شاهد قبرا في حياته، لذا تدخلت العناية الآلهية لتريه السبيل الأمثل. يقول القرآن الكريم : }فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} سورة المائدة. ويقال في تفسير هذه الآية بأن الله أرسل غرابين يقتتلان على مرأى من قابيل، وقد انتهى ذلك القتال بموت أحدهما، فعمد الغراب القاتل إلى نبش الأرض بمخالبه حتى تكونت حفرة عميقة دفع إليها جسد الغراب القتيل ثم حثا التراب فوقه مواريا إياه الثرى، فألهم بصنيعه هذا قابيل ليدفن شقيقه بطريقة مماثلة.

أول قبر في التاريخ

الدلائل التاريخية تتفق عموما مع ما ذكرته النصوص المقدسة حول أن البشر دفنوا موتاهم منذ عصور سحيقة ضاربة في القدم. لكن علماء الآثار لا يعلمون شيئا بالطبع عن زمن مقتل هابيل، ولا عن مكان القبر الذي ضم رفاته، فهم لا يستندون في عملهم إلى النصوص الدينية المقدسة، وإنما إلى الآثار واللقى التي يستخرجونها من خلال تنقيبهم  للأماكن التاريخية، وأول تلك الآثار المتعلقة بالدفن كانت عبارة عن هياكل عظمية لإنسان النياندرتال عثروا عليها مدفونة جزئيا في مغارة الكبارة في فلسطين وكهف شنايدر في شمال العراق، والى جانبها عثروا على مجموعة من الأدوات البدائية الحجرية، الأمر الذي عده البعض دليلا على ممارسة الدفن والطقوس الجنائزية منذ أكثر من ثلاثين ألف عام، لكن هذا استنتاج يدور حوله الكثير من الخلاف والجدل، والرأي الراجح والمتفق عليه، هو أن المقابر الأولى للإنسان الحديث، والتي لا لبس في أنها قبور حقيقية، تعود في حقيقة الأمر إلى حوالي 13 ألف سنة فقط، وقد عثر المنقبون على تلك القبور البدائية داخل مغارات جبل الكرمل في فلسطين.

طقوس الدفن .. لمحة سريعة

بالنسبة لمعظم الناس فأن الدفن يعني ببساطة وضع الميت تحت التراب، لكن الأمر في الحقيقة أعمق بكثير من مجرد حفرة في الأرض، فالدفن ممارسة بشرية ذات تاريخ طويل تنوعت طرقها وأساليبها بتنوع الثقافات والأديان وتناوب العصور التاريخية، ففي البداية كان الناس يدفنون موتاهم في مدافن بدائية داخل الكهوف والبيوت أو بالقرب منها، وفي زمن لاحق صاروا يدفنون في مقابر صغيرة بجوار معابد الآلهة والكنائس والمساجد لاعتقادهم بأن طبيعة الأرض وقدسيتها تلعب دورا كبيرا في تحديد مصير الميت في العالم الآخر. وبالطبع كانت تلك القبور الأولى غاية في البدائية والبساطة، مجرد حفرة ترابية تضم جثة أو أكثر، لكن بمرور الزمن، تطورت تلك الحفر فسويت جوانبها وبطنت باللبن والآجر والصخور وبنيت فوقها القباب والمشاهد، وأصبح لبعضها شاهد صغير يحمل أسم الميت وعمره؛ أما الجثة نفسها، فبعد أن كانت تدفن عارية في القبر مع بعض الأغراض البسيطة كالأواني والحلي والتمائم وغيرها من الأشياء التي أعتقد الأقدمون بأن الميت سيحتاج إليها خلال رحلته الأخروية، صارت في عهود لاحقة توضع داخل ناووس أو تابوت من الخشب أو الحجر، وقد ظهرت التوابيت لأول مرة في مصر القديمة قبل آلاف السنين ثم تنوعت أشكالها وأحجامها بمرور الزمان ومازالت تستعمل حتى اليوم في الكثير من بقاع العالم. كما ظهر في القرن الثالث قبل الميلاد الكفن القماشي، أستخدمه اليهود لأول مرة ثم أخذه عنهم المسيحيون والمسلمون، ولعل أشهر الأكفان في التاريخ هو كفن تورينو الذي تظهر عليه صورة غامضة يقال بأنها تعود للسيد المسيح.

مثلما تطورت أساليب الدفن، من مجرد حفرة صغيرة إلى أضرحة مهيبة تخطف الأبصار، فقد تطورت وتنوعت أيضا الرسوم والطقوس المرافقة للدفن، فعلى سبيل المثال، هناك من يدفن الميت في نفس اليوم الذي يلفظ فيه أنفاسه الأخيرة، لا يؤخره إلى اليوم التالي إلا لظروف قاهرة، في حين يرى آخرون وجوب تأخير الدفن لمدة معينة، فالبوذيون لا يدفنون إلا بعد مرور ثلاثة أيام على حدوث الوفاة. ولا يقتصر تنوع الطقوس على المدة، بل يمتد إلى كل ما يتعلق بالجنازة من تشييع وتغسيل وتكفين وعزاء وحتى طريقة الحزن والبكاء، فهناك شعوب تملئ الدنيا نواحا على موتاها، تضرب الخدود وتشق الجيوب، في حين يكتفي آخرون بمجرد دمعة !. ويشمل التنوع أيضا وضعية الميت داخل القبر، فرغم أن الرقود هو الأكثر شيوعا، إلا أن هناك استثناءات طبعا، فبعض الشعوب مثلا درجت على دفن محاربيها بوضعية الوقوف تكريما لهم.

التابوت هو مثال آخر على تنوع واختلاف أساليب الدفن، فالمسيحيون مثلا يضعون موتاهم داخل تابوت محكم الإغلاق من الخشب أو المعدن، واليهود أيضا يستعملون التابوت، لكن الأرثوذكس لديهم شروطهم الخاصة في التابوت، إذ يجب أن يكون منبسطا ومصنوع من الخشب فقط، حتى مساميره يجب أن تكون خشبية. أما المسلمون فلا يستخدمون التابوت للدفن ويكتفون بالكفن القماشي، لكنهم يلحدون القبر أو يجعلون فيه شقا توضع الجثة داخله، مع حرصهم على أن يكون وجه الميت باتجاه القبلة.

وإذا كانت الأديان والثقافات  تلعب دورا كبيرا في اختلاف أساليب الدفن وطقوسه، فأن هذه الأديان والثقافات تتفق على وجوب دفن الميت بصورة لائقة وعلى ضرورة احترام رفاته، وقد يعود هذا الحرص والالتزام في جذوره إلى معتقدات بدائية قديمة أمنت بأن الموتى الذين لا يحظون بمراسم دفن محترمة لن تعرف أرواحهم أبدا الراحة والسلام، وقد تتحول إلى أشباح وكائنات شريرة تعود لتنتقم من الأحياء، لهذا يعتبر التمثيل بالجثث أو دفنها بالمقلوب، أي الوجه نحو الأسفل، من الأمور المستنكرة والمستقبحة لدى معظم الشعوب، والأمر نفسه يصح على الدفن الجماعي الذي يمكن اعتباره من أكثر أساليب الدفن انتهاكا لحرمة الموتى، والمؤسف حقا هو أن العالم عرف خلال حروبه ومجاعاته وأوبئته عددا لا يحصى من هذه المقابر الجماعية.

سراديب الموتى

هي سراديب وأقبية ودهاليز تحت الأرض تستخدم لدفن الموتى وتعد سراديب الموتى أسفل مدينة روما هي الأقدم تاريخيا، فهي تضم قبورا تعود إلى القرن الثاني الميلادي، وهي كذلك الأكثر قدسية من بين جميع سراديب الموتى، حيث يعتقد بأنها تضم رفات القديسين بطرس وبولس. والدفن في هذه السراديب يشبه في أسلوبه خلية النحل، فالجثث توضع داخل ثقوب محفورة في الجدران، وهذه الثقوب عادة ما تكون بعرض 40 – 60 سنتيمترا وبعمق 150 – 160 سنتيمترا ، وهي تغلق ببلاطة تحمل أسم الميت، وهناك المئات من هذه الثقوب على طول تلك الدهاليز التي تمتد أحيانا لعدة كيلومترات.

ترتبط سراديب الموتى بشكل وثيق بتاريخ المسيحية، ذلك أن الشعوب الأوربية الوثنية، ومنهم الرومان، كانوا يحرقون موتاهم، في حين حبذ المسيحيون الدفن، ولأن المسيحيون الأوائل كانوا أقلية مضطهدة في روما، لذا قاموا بدفن موتاهم في سراديب مخفية تحت الأرض بعيدا عن أعين الرومان الوثنيين، وهكذا ظهرت إلى الوجود أول سراديب الموتى ثم توسعت لاحقا بانتشار المسيحية لتمتد إلى فيينا وباريس ولندن وجمهورية التشيك ومصر وبيرو ومالطا وأوكرانيا وأسبانيا .. إلخ.

بعض سراديب الموتى لم تحفر أصلا من أجل دفن الموتى، كما هو الحال مع سراديب باريس فقد كانت بالأساس مناجم لاستخراج الكلس والحجر الجيري، لكنها أصبحت ملاذا لملايين الهياكل العظمية بسبب رغبة الدولة في التخلص من المقابر القديمة التي كانت تحتل حيزا داخليا كبيرا تحتاجه المدينة من أجل التوسع وبناء المزيد من الوحدات السكنية. وهذه العملية، أي إزالة المقابر القديمة، تجري في كل مدن العالم على حد سواء، إذ غالبا ما تسوى تلك المقابر بالأرض بعد أن يتم نقل البقايا العظمية إلى قبور جماعية جديدة أو إلى مستودعات خاصة بالعظام، فسكان تلك المقابر من الموتى ماتوا منذ زمن بعيد ولم يعد لديهم أي أقارب يزورونهم أو يهتمون بالمطالبة برفاتهم.

مستودعات العظام بدورها ليست فكرة جديدة، فهناك مستودعات عظام يعود تاريخها إلى الألف الأول قبل الميلاد، حيث كان الزرادشتيون في بلاد فارس يحفظون عظام موتاهم في حفر وآبار عميقة خارج المدن تدعى أستودان، ولاحقا أستعمل المسيحيون الكاثوليك نفس الطريقة في تخزين عظام موتاهم داخل سراديب وحجرات، فمن أجل إفساح مجال اكبر لاستيعاب الموتى داخل المقابر، خاصة تلك الملحقة بالكنائس، غالبا ما كان القساوسة يقومون باستخراج بقايا الموتى القدماء من قبورهم من أجل إفساح المجال أمام المزيد من الموتى الجدد، وكانت البقايا العظمية المستخرجة تنقل إلى مستودعات قريبة من المقبرة وتستعمل أحيانا كقطع ديكور لتزيين جدران تلك المستودعات.

المدافن الملكية

على العكس من قبور العامة البسيطة فأن مدافن الملوك تميزت ببذخها وأبهتها، كقبر الفرعون توت عنغ آمون الذي أدهش العالم بكنوزه، وبسبب تلك الكنوز العظيمة كانت المدافن الملكية على الدوام هدفا سهلا يسيل له لعاب لصوص المقابر الذين أضحت سرقاتهم المتكررة دافعا لتطوير أساليب بناء يشوبها الكثير من التعقيد والغموض أبتكرها المهندسون القدامى من أجل إخفاء وتمويه القبور، وقد ساهمت تلك الطرق الهندسية الماكرة في نجاة بعض أعظم الكنوز الملكية التي كان لها فائدة عظيمة في مساعدة علماء الآثار على فك العديد من الأسرار التاريخية، خصوصا تلك المتعلقة بأمم وقبائل التي لم تعرف استخدام اللغة مكتوبة، كالاسكيثيين والسرمتيين وقبائل الجرمان والسلت والفايكنغ.
إضافة إلى كنوزها التي لا تقدر بثمن، فقد ساهمت أساليب الهندسة العبقرية والمبتكرة في خلق أروع التحف المعمارية التي طالما أثارت دهشة وفضول الناس عبر القرون، والتي لم تكن في الحقيقة سوى مدافن ملكية، كأهرامات مصر وضريح موسولوس و"مدينة الموتى" التي ضمت رفات الإمبراطور الصيني تشي هيونك دي وجيشه الفخاري الذين يعرف بأسم "جيش تراكوتا"، وكذلك ضريح تاج محل الفاخر في الهند وخزنة البتراء في الأردن .. إلخ.

قبور عربية

وما دمنا نتحدث عن المدافن والقبور، فلا بأس من ذكر بعض القبور المشهورة عند العرب، مثل الغريين في الحيرة، ويقال بأنهما قبري نديمي المنذر بن ماء السماء، ملك الحيرة، وصاحب يومي البؤس والنعيم (1). وهناك أيضا قبر كليب بن ربيعة الذي كان مقتله سببا في إشعال حرب البسوس، وقبر عامر بن الطفيل الذي جعلت له بنو عامر حرماً ميلا في ميل وجعلوا له مسلحة لحمايته، وقبر حاتم الطائي الذي زعموا بأن كان يقري ضيوفه حتى في مماته! (2)، وقبر امرؤ القيس بن حجر الكندي الشاعر المشهور الذي أرسل له قيصر الروم حلة مسمومة، فمرض حالما لبسها ووافته المنية على جبل أسمه عسيب بالقرب من أنقرة في تركيا، ويقال بأنه في ساعة احتضاره شاهد قبرا وحيدا على ذلك الجبل فسأل عن صاحبه، فقالوا بأنه قبر أميرة بيزنطية وأخبروه قصتها، فأنشد أبياته المشهورة :

أيا جارتنا أن المزار قريب *** وأني مقيم ما أقام عسيب
أيا جارتنا إنا غريبان هاهنا *** وكل غريب للغريب نسيب

وهناك أيضا قبر حرب بن أمية الذي يقال بأن الجن قتلته – وله أيضا حكاية مشهورة - فدفنه أصحابه في مكان قفر وتركوه، وفيه أنشدت الجن – كما تزعم العرب – البيت السحري الذي يصعب ترديده لأكثر من ثلاث مرات من دون أن يخطأ اللسان في لفظه :

وقبر حرب بمكان قفر **** وليس قرب قبر حرب قبر

ومنها أيضا، قبر أبو رغال، أشهر الخونة في تاريخ العرب، وهو رجل من ثقيف كان دليلا لأبرهة الحبشي حين توجه إلى مكة عازما على هدم الكعبة، وقد هلك أبو رغال في الطريق فدفن في قبر كانت العرب ترجمه بالحجارة.

أما بعد الإسلام فقد عرف العرب قبورا وأضرحة لا تعد ولا تحصى، ولا مجال لذكرها في هذه العجالة.

ماذا يحدث للجسد داخل القبر ؟

يتحلل ويتفسخ، هذا هو الجواب ببساطة، لكن الفترة الزمنية التي يستغرقها تحلله تتأثر بعوامل عديدة، كالجو والبيئة وطبيعة التربة وأسلوب الدفن وعمق القبر، فعلى سبيل المثال، يتحلل جسد الإنسان في الهواء الطلق أسرع مرتين من تحلله في الماء وأسرع ثمان مرات من تحلله تحت التراب، كما أن الجثث الموضوعة داخل تابوت محكم الإغلاق يكون تحللها أبطأ بكثير من تلك التي تكون على تماس مباشر مع التربة المحيطة، ويكون تحلل الجثث في الأقاليم الحارة – كبلداننا العربية - أسرع بكثير من تحللها في الأقاليم ذات المناخ البارد. وبصورة عامة كلما كان الجسد أكثر تعرضا للهواء وعوامل الطبيعة كلما كان تحلله أسرع، لكن بغض النظر عن سرعة التحلل فأن أغلب الجثث تمر بخمسة مراحل في تحللها :

- مرحلة الجسد الطازج : شحوب اللون وانخفاض درجة الحرارة وتيبس العضلات.
- مرحلة الانتفاخ : تغير لون البشرة مع رائحة كريهة وانتفاخ الجثة بسبب الغازات.
- مرحلة التحلل النشط : يبدأ الجسم بفقدان كتلته وتتشوه معالمه كليا.
- مرحلة التحلل المتقدم : تتباطأ وتيرة التحلل بسبب استنفاذ كتلة الجسم.
- مرحلة البقايا الجافة : لا يتبقى من الجسم سوى بعض الأنسجة الجافة والعظام.

أن تحلل الجسم يبدأ في الحقيقة حال موت الإنسان، وتكون العلامات الخارجية الأولى هي شحوب لون البشرة وانخفاض درجة الحرارة وتتيبس العضلات، إما من الداخل، فيؤدي توقف القلب إلى توقف الدورة الدموية وانخفاض نسبة الأوكسجين وموت الخلايا وبالتالي موت أنسجة وأعضاء الجسم بسبب افتقادها للأوكسجين الذي كان الدم يوصله إليها، ومن عجائب الجسم البشري المذهلة، هو أنه يساهم بنفسه وخلال بضعة دقائق فقط من موته في بدء عملية تدمير ذاته، فموت الخلايا وتكسرها يؤدي إلى إطلاق أنزيمات خاصة تعمل على تسريع وتيرة تحلل الأحشاء الداخلية، وتسمى هذه العملية بالتحلل الذاتي، لكن سرعة هذا التحلل تتباين من خلية إلى أخرى ومن عضو إلى آخر، فالخلايا الدماغية تموت بعد 3 – 7 دقائق من الوفاة، في حين أن خلايا الجلد يمكنها البقاء حية لمدة 24 ساعة. أما الأعضاء، فأن القلب والرئة يمكن أن يبقيا حيين، أي صالحين للزراعة في جسد إنسان آخر، لمدة 6 ساعات والبنكرياس لـ 12 ساعة والكلية لـ 24 ساعة .. وهلم جر، ولهذا السبب نشاهد أحيانا في الأفلام موظفو المستشفيات وهم يتراكضون حاملين معهم عضوا بشريا لنقله إلى المستشفى أو إلى مريض في صالة العمليات، ذلك أن عامل الوقت يكون حاسما جدا في جراحات نقل الأعضاء البشرية.

وبالعودة لما يجري داخل القبر، فأن عملية التحلل الذاتي الأولية تؤدي إلى تهيئة بيئة ملائمة لأنواع مختلفة من البكتريا، بعضها موجود أصلا داخل الجسم ليساعده في عملية هضم الطعام، لكن بعد الموت يصبح جسم الإنسان نفسه طعاما لهذه البكتريا. ومن أهم أنواع البكتريا المساهمة في عملية التحلل هي البكتريا اللاهوائية، وهي نوع لا يحتاج إلى الأوكسجين للنمو والتكاثر، بل قد يؤدي الأوكسجين إلى موتها، وتقوم هذه البكتريا بتحويل سكريات ودهنيات وبروتينات الجسم إلى أحماض وغازات كالميثان وكبريتيد الهيدروجين وثاني أكسيد الكاربون، وهذه الغازات هي السبب في الرائحة الكريهة المنبعثة عن الجثث، ويؤدي تراكمها داخل الجثة إلى زيادة الضغط على الأحشاء الداخلية فتندفع جراء ذلك السوائل المحتجزة داخل الجسم على شكل رغوة كثيفة من الفم والأنف والدبر ومن أي فتحة أخرى في الجسم، وبمرور الوقت يؤدي تراكم الغازات إلى تحول الجثة إلى بالون عضوي مشوه المعالم، وما لم تجد هذه الغازات مخرجا لها فأنها ستؤدي في النهاية إلى تمزق الجلد وانفجار الجثة، وهذه العملية بأسرها تحدث خلال ثلاثة أسابيع فقط، لكن طبعا كلما زادت حرارة الجو كلما تسارعت وتيرتها، كما أن وصول الحشرات، خصوصا الذباب الأزرق، وتمكنه من وضع بيوضه داخل الجثة وخروج اليرقات التي تتغذى على اللحم سيسرع بالتأكيد من عملية التحلل فلا يتبقى من الجثة سوى حفنة عظام بعد أشهر قليلة فقط على حدوث الوفاة، وحتى العظام ستتحلل بدورها خلال 30 – 50 سنة ما لم تكن محفوظة بطريقة مناسبة.

لكن هل جميع الجثث تتحلل ؟ ألا توجد طريقة لحفظ الجسد من التحلل ؟

هذا سؤال قديم قدم البشرية نفسها، وفي الحقيقة الجواب هو نعم، فهناك عدة طرق لحفظ الجسد من التحلل، بعضها طبيعية، أي أنها تجري من دون تدخل الإنسان، كما هو الحال مع الجثث المدفونة في المناخات الجافة والمتجمدة، وهناك أيضا طرق من ابتكار الإنسان، أشهرها طبعا هو التحنيط، وهو موضوع واسع متشعب له طرقه وأسراره القديمة والحديثة والتي سنتطرق لها بالتفصيل في منشورات قادمة. 

ما هي الخيارات الأخرى ؟

في الحقيقة، الحرق هو الخيار الثاني للتعامل مع جثة بشرية، وهو طقس قديم مارسته العديد من الشعوب لآلاف السنين، خصوصا في الشرق، وهو آخذ في الانتشار في الغرب أيضا، حيث توجد أفران غازية مجازة تقوم بحرق جثة الإنسان خلال أقل من ساعة ثم تسلم ما تبقى منها، أي الرماد، إلى عائلة الميت ليقوموا بدفنه داخل القبر بدلا عن الجثة أو ينثروه في مكان معين حسب وصية الميت ورغبته. لكن الأديان السماوية، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، لا تحبذ الحرق ولا تجيزه، فهي تفضل الدفن عند التعامل مع جثث الموتى.

الدفن حيا .. أسوء كوابيس الإنسان

إذا كان الإنسان يرتجف رعبا لمجرد تفكيره بمسألة تحلل جثته وتفسخها وما سيجري لجسده البض الناعم خلال تلك العملية الكريهة، هذا رغم علمه بأنه سيكون آنذاك مجردا من الإحساس والشعور، فما بالك بمن يوضع في القبر حيا يكابد الخوف والظلام والمكان الضيق والهواء الفاسد والحشرات بكامل وعيه .. أنه حتما أسوء كابوس يمكن أن يتخيله العقل، وهو في الواقع أمر طالما أثار مخاوف الكثير من الناس، إلى درجة تحوله إلى مرض نفسي يدعى (تافوفوبيا)، أي الخوف من القبور، وهو خوف له ما يبرره، فعبر العصور دفن عدد كبير من الناس عند طريق الخطأ وهم ما يزالون على قيد الحياة، في بريطانيا مثلا، أظهرت دراسة طبية تعود لعام 1905، إلى وجود 219 حالة لأشخاص كادوا أن يدفنوا أحياء و 149 حالة لأشخاص دفنوا فعلا وهم أحياء و 10 حالات لأشخاص أفاقوا أثناء تشريحهم!، وحالتان لأشخاص أفاقوا خلال تحنيطهم. وحتى في هذه الأيام، ورغم التطور الطبي المذهل، لازلنا نقرأ في الأخبار من حين لآخر عن قصص طريفة لأشخاص استفاقوا أثناء جنازاتهم أو خرجوا من قبورهم بعد دفنهم، وأجزم بأن حفارو القبور والحانوتين في جعبتهم العديد من هذه القصص، ولهذا كله، لا داعي للتعجب من بعض الناس الذين يوصون بدفن هاتفهم الخلوي معهم!! لكي يتصلو طلبا للنجدة في حال أفاقوا من رقدتهم الأبدية، وهناك في هذا الشأن العديد من القصص الغريبة والطريفة، فمثلا الرئيس الأمريكي الأسبق جورج واشنطن أوصى خدمه بأن يتركوا جثته فوق السرير لـ 12 يوما قبل دفنه، وذلك خوفا من أن يدفن حيا عن طريق الخطأ.

تاريخيا كان دفن الأحياء يمارس كنوع من العقاب، في روما القديمة مثلا، كانت كاهنات الربة فيستا اللائي يعرفن بأسم عذراوات فستال مجبرات على صون طهارتهن وعذريتهن لمدة ثلاثين عاما، القوانين كانت تمنعهن من ممارسة الجنس مع الرجال، وإذا خالفت إحداهن القوانين كانت تدفن حية مع القليل من الماء والطعام في سراديب رهيبة تدعى "حقول الشر" تقع في أطراف روما. وفي روسيا كانت المرأة المدانة بقتل زوجها تعاقب بالدفن حية، وهو أسلوب من العقاب كانوا يدعونه "الحفرة" وأستمر العمل به حتى عام 1927. كما أن آلاف الأشخاص عبر التاريخ تم دفنهم أحياء على يد الأباطرة والملوك والسلاطين، إلا أن أغلب حالات دفن الأحياء كانت تحدث عرضيا بسبب التشخيص الخاطئ لحدوث الموت، فمرضى العصور الوسطى الذين كانوا يدخلون في إغماءات طويلة شبيهة بالموت كانوا يدفنون فورا بسبب الخشية من انتشار الأوبئة، وكان هؤلاء المساكين يستيقظون فيما بعد ليجدوا أنفسهم وحيدين في ظلمة القبر، المحظوظ منهم كان يموت خلال دقائق معدودات بسبب نقص الأوكسجين، لكن إذا كان هناك منفذ للهواء إلى داخل القبر، فقد يعيش الشخص لعدة أيام حتى يموت عطشا. وقد ينجح البعض منهم في فتح تابوته وشق طريقه عبر التراب ليخرج عاريا يركض ويصرخ كالمجانين وسط المقبرة، وربما كان هؤلاء القائمون من الأجداث تحت جنح الظلام هم المصدر الحقيقي لقصص الأشباح ومصاصي الدماء والمستذئبين وغيرهم من الوحوش المرعبة.

في الحقيقة هناك العديد من القصص التي تحكي تجارب لأناس دفنوا أحياء وتمكنوا من النجاة، وأحدى أشهر هذه القصص وأكثرها طرافة وغرابة هي قصة الايرلندية مارجوري مكال التي كانت تعيش مع زوجها جون وأطفالها في مدينة لورغان شمال أيرلندا في مطلع القرن الثامن عشر. ففي أحد الأيام أصيبت مارجوري بحمى شديدة دخلت على أثرها في إغماءة طويلة فظن الجميع بأنها فارقت الحياة، ولأن ذلك العصر تميز بتفشي ظاهرة نبش القبور وسرقة الجثث، لذلك أرادت عائلة مارجوري نزع خاتم الزواج الذهبي من أصبعها لئلا يطمع فيه سارقو القبور فينتهكوا حرمة قبرها، لكن عبثا ذهبت محاولاتهم، فالخاتم أبى أن يترك أصبعها، وفي النهاية قرروا يائسين أن يدفنوه مع الجثة.

في مساء نفس اليوم الذي دفنت فيه مارجوري، قام لصان بنبش قبرها، وكم كانت سعادتهما عظيمة حين لمع خاتمها الذهبي على ضوء قناديلهم الخافتة، حاولا انتزاعه في الحال، بذلا جهدا كبيرا في ذلك، لكنهما باءا بالفشل، فالخاتم كان أضيق من أن يترك أصبع مارجوري، إلا أن ذلك لم يفت بعضدهما، فبالطبع ما كانا ليفوتا غنيمة سهلة كهذه، لذا قررا قطع أصبع مارجروي لاستخراج الخاتم، وما أن قاما بذلك وأخذ الدم يسيل من الأصبع المقطوع حتى فتحت مارجوري عينها فجأة وأطلقت صرخة مرعبة مدوية سقط أحد اللصين على أثرها ميتا في الحال من شدة الخوف، أما الأخر فقد أطلق ساقيه للريح وكان ذلك آخر عهده بالمقابر، إذ لم يجرؤ على دخولها ثانية حتى أخر يوم في حياته. أما مارجوري نفسها فقد تركت قبرها المفتوح وسارت بخطى مترنحة عائدة نحو منزلها حتى وصلت إليه وطرقت بابه. المنزل كان مكتظا في تلك الليلة العجيبة بالأقارب والأصدقاء الذين أتوا لمواساة زوجها جون الذي ما أن سمع الطرقات على الباب حتى أمسك عن البكاء وقال لأطفاله بصوت متهدج حزين  : "لو كانت أمكم على قيد الحياة لأقسمت بأن هذه هي طرقاتها"!، ثم قام وفتح الباب، ويا ليته لم يفعل، فعند الباب كانت زوجته الميتة تقف منفوشة الشعر يعلوها التراب وهي ترتدي الأكفان وتقطر يدها دما! وقف جون المسكين يتأملها للحظات من دون أن ينبس ببنت شفة ثم خر إلى الأرض ميتا من دون حراك، لقد توقف قلبه من هول المفاجأة، ويقال بأن الأقارب الذي أتوا إلى منزله تلك الليلة ليعزوه في زوجته، هم من حملوه على أكتافهم إلى المقبرة ودفنوه في نفس القبر الذي غادرته زوجته قبل ساعات قليلة!، أما مارجوري نفسها فقد استعادت عافيتها تماما ويقال بأنها تزوجت مرة ثانية وعاشت حياة سعيدة مع أولادها وأحفادها حتى وافتها المنية بعد سنين طويلة، لكن هذه المرة لم يدفنها أولادها فورا وإنما انتظروا لعدة أيام حتى تأكدوا وتيقنوا من موتها ثم حملوها إلى المقبرة ودفنوها في قبر نقشوا على شاهده : "مارجوري مكال .. عاشت مرة ماتت مرتين" !!.

الزومبي  .. الموتى الأحياء

معظم الناس يعتقدون بأن الزومبي هو مسخ خرافي من نسج خيال أفلام الرعب الهوليودية، لكنهم مخطئون تماما، لأن هناك فعلا زومبي حقيقيون، وتعد عملية صناعتهم وصياغتهم من الأسرار الغامضة التي عجز العلم عن فهمها وتفسيرها بصورة كاملة، ذلك أن كهنة وسحرة الفودو في هاييتي أحاطوا ممارستهم العجيبة في إيقاظ "الموتى" واستعبادهم بسرية كبيرة.

بالطبع يتفق جميع العلماء على استحالة إعادة ميت إلى الحياة، وقد حاول البعض منهم وضع نظريات تفسر عملية صناعة الزومبي، أكثرها قبولا تزعم بأن كهنة الفودو لديهم وصفات سرية يستعملونها في تخدير من يودون استعباده من الناس، وهذه الوصفات تحوي مواد كيميائية مجهولة تجعل أولئك الأشخاص المستهدفين يفقدون وعيهم فيبدون كالأموات، وبعدما يتم دفنهم يتوجه كاهن أو ساحر الفودو إلى المقبرة فينبش القبر تحت جنح الظلام ويسقي الميت، أو بالأحرى الشخص الواقع تحت تأثير المخدر، بوصفة سرية أخرى تجعله يستفيق من إغماءته الشبيهة بالموت، كما تجعله فاقد الإرادة ينقاد للساحر تماما كالعبد.

القبور الرمزية ونصب الجندي المجهول

ليست كل القبور تحتوي جثث، فهناك آلاف القبور الفارغة حول العالم، فالأشخاص الذين يفقدون حياتهم خلال المعارك والحوادث المأساوية ولا يعثر على رفاتهم تقام لهم أحيانا قبور رمزية تكريما وأحياءا لذكراهم، لكن هذا القبر الرمزي يكون فارغ، أي لا يحتوي على جثة. أما الجندي المجهول فهو قبر يحتوي على بقايا بشرية غير محددة الهوية – أجساد محترقة وأطراف مشوهة - ولا يمكن التوصل لمعرفة أصحابها الحقيقيين، وهي تعود لجنود قتلوا خلال المعارك الحربية، وهذا القبر أو النصب تكون له قيمة وطنية عالية حيث يجري الاحتفال به سنويا ويزوره رؤساء وملوك الدول ليضعوا أكاليل الزهور فوقه، فهو رمز لملاحم وبطولات الأمة وتخليد لذكرى أولئك الذين سقطوا دفاعا عنها.
هل الجثث آمنة تماما في المقابر ؟

القلق على سلامة الجثث والقبور كان ولا يزال أمرا يشغل بال الكثيرين، فعلى سبيل المثال، هناك العديد من قادة الأمم وحكامها البارزين أخفوا قبورهم خشية أن يمثل الأعداء بجثثهم بعد الموت، وفي تراثنا العربي، كان خلفاء بني العباس هم الأكثر اهتماما بإخفاء قبورهم، ربما خوفا من أن يفعل الناس بهم مثلما فعلوا هم بقبور بني أمية، لهذا السبب كانوا يدفنون موتاهم ليلا ويكون للواحد منهم عشرين قبر لا يعلم سوى الله في أيهم دفنوه.

لكن في الواقع، أغلب القبور تنبش من أجل السرقة وليس من أجل الانتقام، فقبور الملوك تنبش من أجل كنوزها، وقبور العامة تنبش من أجل أكفانها أو توابيتها أو بعض الحلي البسيطة التي قد تدفن مع الميت، كما قد تنبش القبور للحصول على جثة حديثة العهد أو أجزاء منها يمكن بيعها لطلبة كليات الطب مقابل المال من أجل دروس التشريح. وتنبش القبور أيضا من قبل بعض الطوائف والجماعات التي تمارس السحر الأسود، وفي حالات نادرة، تستخرج الجثث من أجل أكلها كما تفعل طائفة الأغوريا الهندية، أو من أجل ممارسة الجنس معها

ختاماً
كلنا سنموت عزيزي القارئ، كن على ثقة من ذلك، وستبلى أجسادنا لا محالة، هذه حقيقة لا تقبل الجدل، وسوى ذلك لا أظن أحدا يعلم علم اليقين بما سيحدث بعد الموت، ذلك أن المسافرون إلى العالم الآخر يرحلون بتذكرة ذهاب فقط، لا يرجعون أبدا، وأنا هنا لست بصدد إعطاءك مواعظ ونصائح أو تخويفك من عذاب القبر وجحيمه، فموت الجسد أمر حتمي لا داعي للخوف منه، لكن المصيبة والطامة الكبرى هي في أن نحيى كالأموات ..

تعبٌ كلها الحياة فما أعجب *** إلا من راغبٍ في ازدياد 

هوامش
1 – للغريين حكاية نرويها باختصار، فقد كان للمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة نديمان لا يفارقانه، وفي أحدى الليالي غضب المنذر منهما وهو تحت تأثير الخمر، فأمر بأن يحفر لهما قبران ثم يدفنا أحياء، وحين أفاق من سكره في الصباح طلبهما، فأخبره حرسه بما كان من شأنهما، فحزن المنذر لذلك وأمر ببناء صومعتين عاليتين فوق قبريهما سميتا بالغريين، وجعل لنفسه يومان في السنة، يوم نعيم ويوم بؤس، في الأول تعم الأفراح الحيرة ويجود الملك على الناس بالمال والطعام، إما في الثاني، أي يوم البؤس، فتتحول الحيرة إلى مدينة أشباح، إذ يمضي المنذر مع حرسه وجنده في الأزقة والشوارع الخالية وهم متشحين بالسواد جميعا، فلا يطلع عليهم شيء من حيوان أو طائر أو إنسان إلا ذبحوه وصبغوا بدمه الغريين! .. وقد أستمر الملك في مسلكه العجيب هذا لعدة سنين حتى طلع عليه في يوم بؤسه رجل من طيء يدعى حنظلة كانت له مع الملك حكاية عجيبة في الوفاء والتضحية جعلته يهدم الغريين ويتخلى عن يومي بؤسه ونعيمه، وتلك قصة طويلة سأذكرها لاحقاً 

2 – ذكر المسعودي في مروج الذهب هذه القصة الطريفة عن قبر حاتم أذكرها بتصرف : "وحدث يحيى بن عقاب الجوهري قال: حدثنا علي قال: أنبأني عبد الرحمن بن يحيى المنذري، عن أبي المترر هشام الكلبي، قال: حدثنا أبو مسكين بن جعفر بن محرز بن الوليد، عن أبيه، وكان مولى لأبي هريرة قال: سمعت محمد بن أبي هريرة يحدث قال: كان رجل يكنى أبا البختري مر في نفر من قومه بقبر حاتم طييء، فنزلوا قريباً منه، فبات أبوٍ البختري يناديه: يا أبا الجعد، أقرنا، فقال قومه له: مهلاً ما تكلم رمة بالية؟ قال: إن طيئاً تزعم أنه لم ينزل به أحد قط إلا قَراه، وناموا، فلما أن كان في آخر الليل قام أبو البختري مذعوراً فزعاً ينادي: وراحلتاه، فقال له أصحابه: ما بدا لك؟ قال: خرج حاتم من قبره بالسيف، وأنا أنظر، حتى عقر ناقتي، قالوا له: كذبت، ثم نظروا إلى ناقته بين نوقهم مجدلة لا تنبعث، فقالوا له: قَد والله قَراك، فظلوا يأكلون من لحمها شواء وطبيخاً حتى أصبحوا، ثم أردفوه، وانطلقوا سائرين، فإذا راكب بعيرٍ يعود آخر قد لحقهم فقال: أيكم أبو البختري؛ فقال أبو البختري: أنا ذلك، قال: أنا عدي بن حاتم، وإن حاتماً جاءني الليلة في النوم ونحن نزول وراء هذا الجبل، فذكر شتمك إياه، وأنه قَرى أصحابك براحلتك وقد أمرني أن أحملك على بعير مكان راحلتك، فدونك."



ليست هناك تعليقات

جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند)

جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند) هي دولة أعلنت استقلالها عن الصومال في عام 1991 عقب اندلاع الحرب الأهلية الصومالية. لكن لم يتم الاعتراف بها ...