مدينة بلنسية الأندلسية
لقد تميزت مدن الأندلس في عهد المسلمين بالتحضُّر والتقدم والتطور، وما زالت الآثار الخالدة الباقية فيها إلى يومنا هذا دليلًا دامغًا وبرهانًا ساطعًا على ما شهدته من حضارة مزدهرة. ويطيب لنا في هذه السطور أن نتحدث عن واحدة من أهم المدن الأندلسية من حيث تاريخها وحضارتها ومعالمها. وما الحديث عن المدن الأندلسية من قبيل البكاء على الأطلال أو اجترار الماضي المجيد، وإنما يُقصد منه أخذ الدروس واستخلاص العبر في زمنٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى التكاتف والتلاحم والتجمع ونبذ جميع مظاهر الفرقة والتشتت والتشرذم. هذا بالإضافة إلى استحضار جانب من حضارة المسلمين في الأندلس التي أقاموها على أساس متين؛ ألا وهو الفكر الإسلامي العادل الحر الذي يساوي بين جميع أفراد المجتمع على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم وأفكارهم وتوجهاتهم.
وتعد مدينة بلنسية أو فالنسيا Valencia ثالثة كبريات مدن إسبانيا بعد مدريد وبرشلونة، وكانت قاعدة من أعظم قواعد الإسلام في الأندلس، وحاضرة مملكة بلنسية، إحدى ممالك الطوائف الأندلسية، والتي ما زالت آثارنا الإسلامية بها شاهدة على عظمة ما خلفه المسلمون من تاريخ وحضارة.
الموقع الجغرافي لمدينة بلنسية:
بلنسية مدينة، يلفظ اسمها بسين مهملة مكسورة، وياء خفيفة. وتسمى بلنسية أيضًا (مدينة التراب)، ربما لخصوبة تربتها، و(مطيب الأندلس)، لكثرة رياحينها، و(بستان الأندلس)، لتنوع أشجارها وكثرتها.
تقع مدينة بلنسية في شرقي الأندلس قرب ساحل البحر المتوسط على بعد أربعة كيلومترات منه، وتحدها طليطلة من الغرب، وطرطوشة من الشمال، ومرسية من الجنوب، وهي شرقي قرطبة ، وشرقي تدمير. وبينها وبين تدمير أربعة أيام، ومنها إلى طرطوشة أربعة أيام أيضًا. وكان موقعها عند الفتح الإسلامي مرسى صغيرًا يسمى فالنثيا (Valencia)، وهو الاسم الذي أصبح المسلمون ينطقونه بلنسية.
تتوسط بلنسية سهلًا زراعيًا شديد الخصوبة يمتد بمحاذاة ساحل البحر المتوسط. ويرتوي هذا السهل من شبكة نهرية تتفرع من النهر الأبيض. ويعتبر أحد فروعه، وهو نهر توريا المسمى النهر الأحمر، نهرها الرئيسي. ويصب هذا النهر في البحر المتوسط شمال بلنسية.
بلنسية من أجمل مدن الأندلس:
وبلنسية خصها الله بأحسن مكان، وحفها بالأنهار والجنان، فلا ترى إلا مياهًا تتفرع، ولا تسمع إلا أطيارًا تسجع، وجوها صقيل أبدًا، لاترى فيه ما يكدر خاطرًا ولا بصرًا. وقد استغل أهلها أراضيها الخصبة في الزراعة؛ فقد زرعوا أنواع الفواكه والمحاصيل والأزهار. ومن أشهر محاصيلها: الأرز، والزيتون، والقراسيا، والزعفران، والتين، والرياحين.
واشتهرت بلنسية بصناعة النسيج الكتاني، وفيها تقصر (تصبغ) الثياب الغالية. وكان النسيج البلنسي يصدر إلى أقطار المغرب. كما كانت منتجاتها الزراعية تصدر إلى أنحاء العالم الإسلامي عبر مرساها النشط بحركة السفن التجارية. ومن أبرز ما كانت تصدره -إضافة إلى الكتان- الزعفران والقرمز.
ويدل هذا الوصف على جمال بلنسية وغناها. أما الترف الذي لم تبلغه مدينة مثلها فيدل عليه وصف العذري لأهلها: "لا تكاد ترى فيها أحدًا من جميع الطبقات إلا وهو قليل الهمّ، مليئًا كان أو فقيرًا، قد استعمل أكثر تجارها لأنفسهم أسباب الراحات والفرج، ولا تكاد تجد فيها من يستطيع على شيء من دنياه إلا وقد اتخذ عند نفسه مغنية وأكثر من ذلك، وإنما يتفاخر أهلها بكثرة الأغاني. يقولون: عند فلان عودان وثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك. وقد أخبرت أن مغنية بلغت في بلنسية أكثر من ألف مثقال طيبة، وأما دون الألف فكثيرات؛ وهي أطيب البلاد وأحسنها هواء وأجملها بساتين".
الفتح الإسلامي لمدينة بلنسية:
وتعتبر بلنسية قاعدة من قواعد الأندلس؛ إذ تتبعها عدة مدن وأقاليم وقرى وحصون. وهي مدينة قديمة، أسسها الرومان سنة 139 قبل الميلاد، واستولى عليها القوط الغربيون سنة 413م.
ولما كانت بلنسية عند الفتح الإسلامي مجرد مرسى صغير، فإن المؤرخين المسلمين لم يذكروا تاريخًا محددًا لفتحها. لكن يفهم من الإشارات التاريخية أنها فتحت سنة 94هـ/ 714م على يد عبد العزيز بن موسى بن نصير في عهد أبيه، وربما فتحها في أثناء ولايته على الأندلس التي دامت سنتين (95 - 97هـ/ 713 - 715م).
وأصبحت بلنسية في العهد الإسلامي مدينة كبيرة مسورة بسور متين مبني بالحجر والطوابي عليه عدة أبراج دفاعية، وفيه ثمانية أبواب، وضمت المدينة مسجدًا جامعًا ودارًا للإمارة، وعددًا من الأسواق المزدهرة، إضافة إلى الأرباض والأحياء.
وتطورت بلنسية منذ فتحها تطورًا سريعًا؛ فقد كثر سكانها من العرب والبربر في عهد الولاة (95 - 138هـ/ 714 - 755م)، إلا أن ملامحها الإدارية لم تتضح في ذلك العهد الذي كان عهد فتح وجهاد ضد النصارى.
بلنسية في عهد الدولة الأموية بالأندلس:
وأما في عهد الأمويين (138 - 316هـ/ 755 - 929م)، فقد أصبحت بلنسية مركزًا إداريًا لكورة ضمت العديد من المدن والقرى والحصون. وممن تولوا أعمالها في هذا العهد عبد الله البلنسي بن عبد الرحمن الداخل. ويبدو أن البلنسي اتخذ هو وأسرته من بلنسية موطنًا فنُسب إليها. وقد خرج على أخيه هشام الرضا الذي تولى إمارة الأندلس بعهد من أبيه، تضامنًا مع أخيهما الأكبر سليمان، وحاول أن يتولى أمر الأندلس، إلا أنه فشل، ثم توفي سنة 208هـ/ 853م. ولما تولى إمارة الأندلس عبد الرحمن الأوسط (206- 238هـ/ 822- 852م)، عين ابن ميمون عاملًا على بلنسية سنة 234هـ/ 848م. ثم أصبح عاملًا عليها في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر (300- 350هـ/ 912- 962م) عبد الله بن محمد بن عقيل، ثم تعاقب عليها عدد من العمال. وكان من أشهر قضاتها في هذ الفترة جحاف بن يُمن بن سعيد المعافري الذي استشهد في معركة الخندق سنة 327هـ/ 939م. ثم تولى قضاءها عدد من ذريته، منهم عبد الرحمن بن جحاف.
بلنسية في عهد ملوك الطوائف:
وتوالى على حكم بلنسية ولاة أمويون وعامريون، ثم تغلب عليها اثنان من العبيد الصقالبة من فتيان بني عامر بعد سقوط دولتهم، وهما مظفر ومبارك، وتقاسم الاثنان حكم بلنسية وشاطبة (399 - 408هـ) ووفد على بلنسية في عهدهما كثير من الصقالبة والموالي والبشكنس (الباسك) والفرنجة وغيرهم من العبيد الآبقين من أنحاء الأندلس، كما وفد إليها أصحاب المهن والحرف والأموال بعد أن حصنها مظفر ومبارك وجعلا لها سورًا وأبوابًا منيعة، فشيدت فيها القصور والحدائق، وازدهرت بلنسية وعم فيها الرخاء. ولم تلبث أن غدت حاضرة مملكة متسعة حين آلت إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور حفيد المنصور محمد بن أبي عامر ، حين بايعه الصقالبة لحكمها سنة 412هـ / 1021م.
كانت تقع مملكة بلنسية شرق الأندلس، تجاوِرُ من طرفها الشمالي سرقسطة المحكومة لبني هود في الثغر الأعلى، عاصمتها مدينة "بلنسية"، ومن مدنها شاطبة وألمرية ولورقة وغيرها. وكانت تحاكي ما نعرفه اليوم بدول اللجوء السياسي إبّان عهد ملوك الطوائف؛ حيث احتمى بها عدد كبير من المفكرين والكتّاب والأدباء والسياسيين الأندلسيين الهاربين من بطش ملوك الطوائف، نذكر من الأسماء الشهيرة التي فرّت إليها الشاطبي وابن الآبار وابن اللبانة وابن خفاجة والرصافي وابن الزقاق، وكثير غيرهم، وقد تغنوا بها بقصائد جميلة رقيقة!
توفي عبد العزيز بن عبد الرحمن سنة 453هـ / 1061م، فخلفه ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر، الذي تزوج ابنة المأمون بن ذي النون حاكم طليطلة سنة 451هـ. وجرت بينهما أحداث انتهت بضم بلنسية وأعمالها إلى مملكة طليطلة 457هـ، وعهِد المأمون بأمور بلنسية إلى أبي بكر محمد بن عبد العزيز (ابن رويش)، وجعله وزيرًا ونائبًا عنه في حكمها. فأحسن إدارتها وضبط أمورها، وسار سيرةً حسنةً، عدلًا ورفقًا.
توفي المأمون حاكم طليطلة سنة (467ه / 1075م)، وخلفه حفيده القادر، فاستقل أبو بكر في حكم بلنسية، وجرت في عهد أبي بكر محاولات قام بها المؤتمن بن هود، صاحب سرقسطة، لضم بلنسية إلى مملكته، وكانت بين الطرفين صلات ومصاهرة؛ إذ تزوج أحمد المستعين بن المؤتمن من ابنة أبي بكر الذي لم يلبث أن توفي سنة 478هـ / 1085م، بعد أن حكم بلنسية عشرة أعوام. وقد خلفه في حكم بلنسية ابنه أبو عمرو عثمان بن أبي بكر الذي لم يحكم بلنسية سوى بضعة أشهر من تلك السنة.
وفي سنة 478هـ/ 1085م سقطت طليطلة في يد ملك قشتالة النصراني ألفونسو السادس الذي وعد القادر بن ذي النون حاكم طليطلة -بعد إخراجه منها- أن يعينه في الاستيلاء على بلنسية. وتنفيذًا لهذا الوعد، أمد ألفونسو السادس القادر يحي بن ذي النون بفرقة قوية من الجنود القشتاليين.
وسار القادر وجماعته صوب بلنسية، برفقة سرية قوية من الجنود القشتاليين، أمدَّه بها ألفونسو السادس بقيادة البارهانش أو البرهانس (Alvar Háñez )، ابن أخي رذريق الكمبيادور أو القمبيطور. وكان ألفونسو يعرف أن تمكين القادر من الاستيلاء على بلنسية سيجعلها وتوابعها تحت حمايته. وقد صلت هذه القوة بلنسية لإخضاعها، وجرت مراسلات مع أهلها، ووعودٌ من القادر لهم، انتهت بالموافقة على مطالب القادر، واستبعاد مطالب أحمد المستعين ابن هود، منافس القادر، وخُلِع أبو عمرو عثمان.
ودخل القادر وجنود قشتالة المدينة في شوال سنة 478هـ/ فبراير سنة 1085م. وكان عهد القادر في بلنسية عهدًا سيئًا؛ إذ عانت المدينة كثيرًا من الأهوال والاضطرابات، وكانت السيادة الحقيقية للبرهانس وجنوده القشتاليين الذين أرهقوا الأهالي بكثرة ما فرضوه عليهم من ضرائب ومطالب. وقد غادرها كثير من أعيانها نتيجةً لهذه السياسة الطائشة، التي اتبعها القادر إرضاءًا لأنانيته، ورغبةً في البقاء بمركزه، ولو كان في ذلك ضياع الدين، وانفاض البلد، وإرهاق الناس، وتحت حماية عدو متربص، وخصم غادر، وبسبب هذه الأوضاع، كره المسلمون حاكمهم الذليل الطريد "يحيى القادر" بشدة.
ثورة أهل بلنسية على القادر ومقتله:
كانت الأندلس في هذا التاريخ تُقبل على أحداث جديدة، تلك هي استدعاء المرابطين . ثم كانت وقعة معركة الزلاقة في رجب سنة 479هـ / أكتوبر 1086 م، حيث كتب الله تعالى النصر الباهر للجيش الإسلامي، وبذلك أُنجدت بلنسية، واطمأن أهلها، وتحطمت قوى ملك قشتالة.
في هذه الأثناء أعلن البلنسيون الثورة على القادر، فما كان من الذليل الخائن إلا أن استنجد بعدو الإسلام الأول في الأندلس "ألفونسو السادس" والذي سبق وأخذ منه ملكه وبلاده، استنجد به ضد ثورة أهل بلنسية عليه، ونظرًا لاضطراب الأحوال داخل بلنسية، أصبحت المملكة محط أنظار الطامعين من ملوك الطوائف الآخرين، وانهدمت الدنيا من حول يحيى القادر من كل مكان.
قام أهل بلنسية بالاتصال بالمرابطين وطلبوا منهم نصرة الإسلام، فهب المرابطون لذلك وأرسلوا جيشًا كبيرًا لنجدة أهلها، ولما اقتربت الجيوش المرابطية من بلنسية، ثار أهلها ثورة عارمة بقيادة قاضي المدينة "أبي أحمد بن عبد الله بن جحاف المعافري" واقتحموا القصر بحثًا عن يحيى القادر حتى وجدوه مختبئًا في حمام القصر ومعه صندوقان من الجواهر والكنوز، فقتلوه في الحال وحملوا رأسه على رمح وطيف بها في شوارع بلنسية، وذلك في 23 رمضان سنة 485هـ / 28 أكتوبر 1092م، وولوا مكانه القاضي أبا أحمد جعفر بن عبد الله بن جحاف.
التعليقات على الموضوع