جنية الآراك

#جنية_الآراك  (حاملة الجماجم)
ليس صحيحاً أنها لا تظهر إلا في ليالي الصيف الحارة المصحوبة بالرطوبة الشديدة في الأجواء، فقد شوهدت مراراً في ليالي الشتاء الباردة، وهناك الكثير ممن صادفها في شهور الخريف، كما أن هناك حالات موثقة لضحاياها في ليال متفرقة من سنوات الرعب التي جثمت على تلك القرية التي أحالتها جنية الآراك إلى مستنقع من الموت الأسود الذي فتك بأهلها.
يقال أنها لم تكن عمياء إلا بعد تلك الحادثة المشؤومة التي فطرت قلبها على طفليها، كما وأنها لم تكن مبعثاً للشر قبل تلك الواقعة، بل كانت جنية مسالمة لا تؤذي أحداً ، فكثير من الفلاحين والمزارعين الذين يتأخرون في حقولهم إلى ما بعد الغسق، كانوا يصادفونها وهي تخرج من شجرة الآراك التي تقبع في طرف البلدة، وتذهب لجلب الماء من الغدير الذي يبعد مسافة لا بأس بها عن مأواها الذي تسكن فيه. كان الفلاحون  يقدمون لها الذرة في موسم الحصاد يضعونها على أغصان شجرة الآراك ليلاً، وفي الصباح يشمّون رائحة الخبز تفوح من داخل الشجرة. هكذا كانت تلك الجنية مسالمة ، ولم يَشْكُ منها أحد إلى أن كانت تلك الليلة الملعونة عندما قام أحد الرجال الذين يعملون في استخراج جذور الآراك، ومن ثم بيعها في الأسواق بعد تقطيعها إلى "مساويك" لسواك الأسنان. قام الرجل عشية بعد غروب الشمس بالذهاب لتلك الشجرة وهو يحمل فأساً لقطع جذورها ، ورغم تحذير اللفلاحين له بعدم الاقتراب من تلك الشجرة إلا أنه لم يأبه لتحذيراتهم وكأن القدر يسوقه سوقاً إلى حتفه وحتف العشرات من الأشخاص لاحقاً..
دخل إلى وسط الشجرة بعد المغيب، وهو الوقت الذي تذهب فيه الجنية لجلب الماء من الغدير، وتترك طفليها التوأم بين جذوع الآراك .شمّر الرجل عن ساعديه ورفع فأسه ليضرب به جذع الشجرة فشعر وكأن الفأس قد وقع على عنق شخص فجز رأسه وفصله عن جسده، وسمع صوتاً يشبه صوت الضرب في اللحم، وأحس بنطفات من مادة شبه سائلة تناثرت على جسمه إلا أنه لم يهتم لذلك، وحسبه رذاذاً من أغصان الشجرة الغضة . عاود الكرّة وضرب ضربة أُخرى في جذع آخر ملاصق للجذع الأول إلا أنه هذه المرة تأكد أنه ضرب جسداً آخر لسماعه صراخ طفل يتألم . إنتفض من خوفه وانهارت قواه بعد أن أدرك أنه ارتكب خطأ فظيعاً وجريمة كبيرة سيدفع ثمنها حياته . ترك الفأس في مكانه وسط الشجرة وانسلّ هارباً إلى داخل القرية مُلتجأ إلى بيته، وانضوى صامتاً خائفاً في غرفة أغلق بابها على نفسه. ظل يرتعد من خوفه وهو يتنصّت إلى الأصوات في الخارج، وأغلبها أصوات أطفال القرية الذين يلعبون في ساحاتها في هذه الساعات الأولى من المساء . كانت الأفكار والهواجس تعصف برأسه، هل فعلاً قتل أحداً في تلك الشجرة ؟! وإن كان قد قتل، فهل ستعثر الجنية عليه؟ يحاول أن يطمئن نفسه ويقول: لم يرني أحد . تُعاود المخاوف الى قلبه حين يتذكر أن خصمه جنية وليس بشراً، فربما للجن طرقهم السهلة في العثور على من يطاردونه، وربما رآه جني آخر يسكن إلى جوار تلك الشجرة، أو ربما رائحته على الفأس الذي تركه في مكان الجريمة والذي سيقود الجنية إلى مكمنه . الكثير من الهواجس المخيفة تملكت عقله ، أدرك أنه أخطأ بترك الفأس هناك، ربما كان من الأجدر لو أنه أخذ الفأس الذي لا شك يحمل رائحته . أظلم الليل وخفتت الأصوات، وعم القرية السكون ، ربما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.
انتفضت القرية على صوت تلك المفجوعة في الشجرة، عويل وصياح ونواح، يشق صمت الليل، لم يبق أحداً نائماً إلا وأيقظه ذلك الصوت المرعب، المختلط بالبكاء والصراخ، فحين عادت الجنية تحمل الماء من الغدير، واقتربت من الشجرة سمعت بكاء أحد أطفالها، فأسرعت في المشي، ودخلت عشها في وسط شجرة الآراك، لتجد أحد أطفالها وقد فصل رأسه عن جسده، والآخر قد بترت ساقاه، وهو يصرخ من الألم، صعقت بأعلى صوتها وصاحت في جوف الليل الظليم، وأبيضت عيناها من الحزن على فلذة كبدها، وأضمرت الشر والانتقام ممن فعل هذه الجريمة بحق طفليها..
أما الرجل فقد انهار من الخوف وهو في بيته يقبع مرعوباً في غرفته، بعد أن سمع صياح تلك النائحة، فأدرك أنه قد فعل الجريمة، وتأكد من ذلك بما لا يدعو مجالاً للشك، تكور في بطانية من صوف، وأمر أهل بيته أن يغلقوا الأبواب والنوافذ، وألا يفتحوا المنزل لأي طارق مهما كان، ولكن هل هذا يجنبه انتقام الجنية؟
وقعت عين جنية الآراك على فأس كان مرمياً بجانب أجساد أطفالها، فحملته واشتمت رائحته، وقالت: الويل لكم من موت أسود لا يبقي ولا يذر، الويل لكم من انتقام جنية الشجر.
أغلق أهل القرية أبواب منازلهم على أنفسهم، وخبأوا أطفالهم، والليل الآن قد جاوز منتصفه، وأطبق سكونه على الأرض، وصمتت الطيور في أعشاشها، وأوهدت الحشرات في حقولها، فلم يُسمع أنين ولا طنين، وكأن ليس على الأرض حي. وفجأة اهتز باب البيت الذي يقبع بداخله الرجل صاحب الفأس..

عندما جاوز الليل منتصفه، ودخلت الدنيا في هدوء مميت، إهتز باب الرجل صاحب الفأس اهتزازاً عنيفاً، أيقظ معه كل من في المنزل في حالة خوف ورعب وقد تسمّروا في أماكنهم، بينما الرجل بداخل غرفته يرتجف من الفزع ، فقد أدرك أن مصيره آيل للزوال، وأن نهايته قد أزفت. فجأة سكن ذلك الصوت الذي يصدر من الباب، وساد هدوء وصمت مطبق جعل من في البيت يظن أن الطارق قد غادر . قامت إحدى بنات الرجل لتنظر من فتحة في باب الغرفة التي يختبئ فيها والدها فرأت ما لا يخطر على بالها، رأت منظراً لم تره حتى في أسوأ كوابيسها. كان هناك جسد بشع لكيان امرأة تقف على رأس أبيها الذي عجز عن النطق، ولم يستطع حتى الصراخ، كانت تلك المرأة تحمل في يدها فأساً، ثم هوت به على عنقه وفصلته عن جسده بضربة واحدة عنيفة، وأخذت الرأس وغادرت في لمح البصر . لم تغادر من الباب بل من إحدى النوافذ تاركةً الجسد على الفراش بدون رأس مضرجاً بالدماء . صرخت البنت بأعلى صوتها، فأتى الناس من كل حدب وصوب نحو البيت ليجدوا الرجل الميت بمنظره المريع وقد اختفى رأسه..
لا أحد يعلم يقيناً كيف تعقبت جنية الآراك آثار الرجل حتى وصلت إليه . هناك من يقول أنها اهتدت إليه عبر رائحته التي تركها على الفأس، ومنهم من يقول أن جنياً آخر يسكن بجانب الشجرة رآه هناك ثم أخبر الجنية، وآخرون يقولون أن الجنية أمسكت بأحد الفلاحين الذين تأخروا في حقولهم إلى ما بعد حلول الليل فأخبرها بغريمها بعد أن هددته بالموت. الأهم أن جنية الآراك قد وصلت إلى قاتل ابنها وقتلته.
إعتقد أهل القرية أن الجنية قد أخذت بثأرها، وأنها لن تؤذي أحداً بعد أن قتلت واترها، وكان ظنهم واعتقادهم في غير محله ، فلم تمض سوى بضع ليال، حتى استبطأت إحدى الأُسر رب منزلها الذي تأخر على غير عادته في مزرعته حيث اعتادوا رجوعه مع غروب الشمس أو بعدها بقليل، لكنه وفي هذه الليلة فقد صلى الناس العشاء وهو لم يأت بعد . خرجت الزوجة إلى ساحة البلدة والخوف والقلق قد غلب على قلبها تطلب من الناس المساعدة والبحث عنه في الحقول، ورغم أن الرعب قد تمكن من قلوب الناس، والكثير منهم يتحاشى الخروج إلى الأحراش خصوصاً المزارع التي تقع بالقرب من تلك الشجرة التي تسكنها الجنية، إلا أن بعض الرجال حملوا على عاتقهم مهمة البحث وخرجوا يحملون المشاعل يشقون بضوئها ظلام الليل . حين وصلوا إلى أطراف المزارع حيث الأشجار الكثيفة التي تغطي الأرض ، وأصوات الحشرات وطنينها تكاد تصم آذانهم شعروا بأن هناك من يتلقف آثارهم . دخلوا المزرعة التي تخص الرجل المفقود وبدأوا بالبحث بين الأشجار وهم ينادون باسمه، لكن لا مجيب لندائهم . أخذوا يعرجون في وسط حقول الذرة الشاسعة وقد بدأت رياح الليل تهب بنسيمها البارد تهز سيقان الذرة فتتمايل مع هبوبها، وفجأة سمعوا صراخاً من أحد الرجال ثم اختفت الشعلة التي كان يحملها . في هذه الأثناء كان الرجال قد تشتّتوا وأضاعوا بعضهم في الحقل، فأغصان الذرة كانت طويلة وكثيفة تحجب رؤية بعضهم البعض ، إلا أن أحدهم رأى كياناً يمرق الحقل والأغصان تفترق من سيره بينها، فإذا به وجهاً لوجه مع امرأة بيدها فأس تشع عيناها بياضاً وتسحب خلفها رأس
رجلين. كان أحد الرأسين للرجل الذي مات في بيته قبل أمس، والآخر للمزارع الذي يبحثون عنه. إرتعب الرجل فرمى بالشعلة جانباً وتسمّر في مكانه صامتاً في حين كانت الجنية تحاول أن تجده لمعرفتها بأنه بجانبها لكنها لا تستطيع العثور عليه لأنها عمياء لا ترى . كانت تتحرك وتتلمس بيديها وهو واقف بلا حراك حتى لا يُصدر ضجيجاً يدل به على نفسه . تحركت الجنية وتقدمت منه حتى كادت تلامسه، ولكن فجأة علا صوت أحد الرجال في مكان آخر من الحقل ينادي على رفاقه، فتراجعت الجنية وذهبت باتجاه ذلك الصوت . تنفس الرجل الصعداء فقد كان قاب قوسين أو أدنى من الموت.
تحرك الرجل بخفة ودون إصدار أي صوت قاصداً مغادرة الحقل والعودة إلى القرية ليتدارك حياته قبل أن يفقدها في هذا الليل الموحش . وبينما هو يمشي في ظلام الحقل بين أعواد الذرة تعثرت رجله بجسد رجل ميت من رفاقه، كانت الجنية قد قتلته وأخذت رأسه . واصل سيره لينجو بعمره قبل أن يقع بين براثن هذه الشريرة سائراً في متاهات حقول الذرة محافظاً على هدوئه رغم الخوف الذي يعصف بقلبه، وفجأة شعر بيد تمتد إليه وتقبضه من ظهره . خارت قواه وأدرك أنها نهايته، ثم أتت يد أخرى لتغلق فمه فأدار رأسه مستسلما لمصيره ، وإذا به بين يدي أحد الرجال من أصدقائه وهو يومئ له بأن يلتزم الصمت، وما أن أشار له إلى مكان بالقرب منهما كان هو متجهاً إليه وإذ به يرى الجنية وهي ممسكة بأحد الرجال تحتجزه، ثم ما لبثت أن رفعت فأسها وجزت به عنق الرجل لتأخذه وتربطه في حبلها إلى جانب الرؤوس الكثيرة التي كانت تسحبها خلفها..
تسلل الرجلان إلى خارج الحقل وأشرفا على مغادرة المزرعة وقد بدت لهما النجاة ممكنة، لكن فجأة سمعا صوتاً خلفهما، صوت شيء يُسحب على الأرض ويُحدث جلبة، كان ذلك هو صوت الجماجم التي تسحبها الجنية . صمدا في مكانهما دون حراك الى أن عبرت الجنية بجانبهما وهي تجر الرؤوس بعدها . كان الرجلان مختفيين خلف شجرة صغيرة، وما أن صارت الجنية بمحاذاتهما حتى توقفت وأدارت رأسها يمنةً ويسرةً وكأنها اشتمّت رائحتهما أو شعرت بوجودهما ، ولكن لم يطل وقوفها حتى أكملت سيرها وغادرت المزرعة نحو شجرة الآراك حيث عشها المليء بجماجم ضحاياها. عاد الرجلان إلى القرية وكانا الناجيين الوحيدين من أصل سبعة رجال قضوا في تلك الليلة المريعة، إلى جانب الفلاح الذي قتلته الجنية أيضاً .علا النواح والبكاء ليلاً في بيوت القرية حزناً على فقدانهم ذويهم، وكانت تلك مأساة عظيمة قصمت ظهر أهل البلدة التعيسة.
مرت السنوات السوداء الثقيلة تتخللها أحداث بشعة بين اختفاء وموت الأشخاص سواء من أهل القرية أو من العابرين الذين يقودهم حظهم التعيس للمرور من جانب شجرة الآراك، فتتلقفهم تلك الجنية وتفتك بهم . ففي إحدى الليالي كان هناك شاب من خارج القرية يقود سيارته ومعه عشيقته، ولسوء حظه تعطلت سيارته ليلاً وكان بالقرب من شجرة الآراك، فخرج من السيارة ليصلح العطل وظلت الفتاة داخل السيارة، وبينما كان الشاب رافعاً غطاء المحرك يحاول فحص الأسلاك أبصرت الفتاة كياناً يقترب من عشيقها، تبين لها أنها امرأة مشوهة عمياء ومعها صبي يكسح ، هو ابنها الذي فقد ساقيه على يد الرجل صاحب الفأس . اقتربت الجنية من خلف الشاب دون انتباه منه لها بينما فضّلت عشيقته أن تصمت من خوفها وتختبئ بداخل السيارة لتنجو بنفسها، مضحية برفيقها . رفعت الجنية فأسها وهوت به على عنق الشاب من الخلف فجزته من النخاع، تدحرج الرأس على الأرض ليلتقطه ابن الجنية الكسيح ويعطيه لأمه التي ربطته إلى جانب الرؤوس التي تسحبها أينما ذهبت، ثم غادرت المكان . بقيت الفتاة تنتفض من رعبها حتى أفلق الصباح بنوره على الأرض، فغادرت السيارة وتوجهت إلى القرية وقد كُتبت لها النجاة، لكنّ الجنون أصابها فيما بعد .
في السنين الأخيرة بدأت الجنية تظهر  ومعها ولدها الكسيح الذي يقودها إلى ضحاياها ، هو يثب أمامها وهي تتبعه جرياً خلف الضحية، لكنها لم تكن سريعة كما من قبل، لذلك كثير ممن صادفوها نجحوا في الإفلات منها، ولم تُسجّل لها حوادث كثيرة إلا بعض الحالات النادرة خصوصاً من الضحايا الغافلين وأغلبهم من خارج القرية الذين لم يأخذوا الحيطة والحذر منها لأنهم لا يعلمون عن أمرها شيئاً.
آخر ظهور لها كان في عام 1999م فلم يصادفها أحد بعد هذا التاريخ الى اليوم. هناك من يقول أنها اكتفت من القتل وشبعت روحها من الانتقام، وهناك من يعتقد أنها توفيت أو غادرت المكان، بينما آخرون يعتقدون أنها فقدت قوتها وأصبحت عاجزة بعد أن تقدم بها العمر .
تذكر ليس نحن فقط نعيش على هذه الأرض، هناك عالم آخر يشاركنا فيها، لذا لا تضرب بفأسك قبل أن تذكر اسم الله.
قصة كتبها #إبراهيم_الجريري.
__________________________________________

بئر كان يستخدم قديما للوضوء، ثم هُجر، وأحاطت به الأشجار من كل الجهات، يقال أن له تاريخ أسود قاتم، حيث أصبح في فترة ما، ملاذاً بشعاً للجرائم، قيل أن البغايا اللاتي يحبلن بأطفال غير شرعيين، يتخلصن منهم برميهم في ذلك البئر، وكذلك النساء اللاتي يجهضن صغارهن، يرمين بالأجنة غير مكتملي النمو في قعره، يرمون فيه برضع في الأشهر الأولى بلا أعضاء، والحوامل أيضاً يتخلصن من المشيمة وبقايا الحمل في تلك البئر، وكذلك أضحى البئر مدفناً للسحر، بحكم أنه مكان مهجور لا يقترب منه أحد، بسبب الثعابين السوداء التي تعشعش في الأشجار الكثيفة المحيطة به، وبينما يعيش الناس على السطح بسلام، هناك شر يتخمّر في الأسفل بقعر البئر، وهو على وشك الصعود، ليفتك بأهل البلدة.. هذه لمحة من قصتي القادمة، تفاعلوا حتى تصلكم جميع قصصي. 

ليست هناك تعليقات

جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند)

جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند) هي دولة أعلنت استقلالها عن الصومال في عام 1991 عقب اندلاع الحرب الأهلية الصومالية. لكن لم يتم الاعتراف بها ...