محمد بن تومرت.. المهدي المنتظر الذي حكم المغرب
«لا يوجد على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة المعنيون بقوله، عليه الصلاة والسلام: لا تزال طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله. وأنتم الذين يفتح الله بكم فارس والروم.. ولا يزال الأمر فيكم إلى قيام الساعة».. هكذا كان يخطب بن تومرت في تابعيه المقربين، ويحثهم على الثبات والاجتهاد، فبهؤلاء التابعين استطاع بن تومرت أن يؤسس دولته، واستطاع أن يهزم دولة المرابطين التي كانت تسبقه في بلاد المغرب بعدما سقطت عاصمتها، ووجد بينهم من يؤمن بكونه «المهدي المنتظر».
ابن القبيلة المتواضعة الذي شغف بالتعلُم والمعرفة
في قرية متواضعة من قرى المغرب الأقصى ومن بين إحدى القبائل التي تعرف أكثر ما تعرف؛ دروب الجبال وطرقها نشأ طفلاً. طفلٌ لا يقنع بأن يتعلم كأبناء قبيلته خبايا الجبال وعلوم الصحراء، ولا يقنع بالقليل من التعليم الذي وفرته له قريته البسيطة كسائر أطفالها.
فأما الطفل فهو محمد بن تومرت، وأما القبيلة فهي قبيلة هرغة، وهي واحدة من أعظم قبائل المصامدة البربر التي كانت مستقرة في بلاد السوس المغربية، وعلى يد هذا الطفل الذي كان شغوفاً بالعلم والتعلم والمعرفة بدأت أسس دولة مغربية قوية، أُطلق عليها اسم «دولة الموحدين»، تمكنت هذه الدولة من توحيد شمال القارة الإفريقية، من تخوم مصر إلى البحر المحيط.
وضمت إليها البلاد الأندلسية عبر بحر الزقاق، وأخذت على عاتقها مهمة حماية الإسلام، وكانت دولة متينة استطاعت أن تفرض بصمتها على محيطها، وجعلت بلاد المغرب الأقصى تتأثر بطابعها الخاص لعدة قرون، وتركت فيها آثارها الباقية حتى اليوم.. محمد بن تومرت الذي قال أنه «المهدي المنتظر» ولد لأب ذي حيثية دينية وعلمية في قريته، ويُعبر بن خلدون عن ذلك عندما يصف المهدي في كتاب العبر عن ذلك قائلاً: «كان أهل بيته أهل نسك ورباط».
الموحدون على أنقاض المرابطين.. صدامات ونصر بن تومرت..
كانت الدولة التي تحكم بلاد المغرب والأندلس حينما كان يحاول بن تومرت إرساء قواعد دولته الجديدة هي دولة «المرابطين»، حيث شهدت بلاد المغرب والأندلس إبان القرنين الخامس والسادس الهجريين تحولاً سياسياً بُني على أسس دينية إصلاحية، ومن هذا التحول حكمت دولة المرابطين خلال الفترة ما بين 448 هـ/1056 م ـ إلى 541 ه/ 1146 م ، وبعد أن ضعفت هذه الدولة قامت على أنقاضها دولة الموحدين، من 515 هـ/1121 إلى 668 ه/1269م، حيث دخل بن تومرت في عدد من المصادمات المتتالية ضد الدولة المرابطية، واستطاعت جيوشه أن تحقق الكثير من الانتصارات.
وعلى الرغم من تباين دعوتي الدولتين إلا أن حكمهما لبلاد المغرب والأندلس كان له أثر واضح في وقوفهما في وجه الخطر الصليبي ببلاد الأندلس، حيث تبادلتا معه الهزائم والانتصارات في أكثر من معركة، من أشهرها الزلاقة سنة 479 هـ/1086م، و الأرك سنة 591 هـ/1195 م ، والعقاب سنة 609 هـ/1212م، وبالإضافة إلى ذلك فقد عملت هاتان الدولتان على إضفاء نوع من الاستقرار السياسي في تلك المنطقة التي اشتهرت بكثرة ثوراتها القبلية والعقدية، فقد كان هذا هو واقع الأندلس قبيل دخول المرابطين إليها.
تتلمذ على يد بن حمدين وأبي بكر الطرطوشي.. واتبع منهجاً إصلاحياً صارماً
تبدأ قصة بن تومرت حينما خرج من قريته الصغيرة متوجهاً إلى الأندلس بهدف تحصيل العلم والمعرفة، وقد كانت حواضر الأندلس ومدنها بمثابة مراكز علمية وثقافية ودينية مهمة يتطلع طلاب العلم المغاربة للدراسة في مدارسها الكبرى، كذلك فقد توجه بن تومرت إلى قرطبة، حاضرة العلم والمعرفة والعاصمة القديمة للدولة الأموية، فقضى بها فترة من الزمن، ودرس على يد عدد من علمائها المعروفين المشهورين مثل القاضي بن حمدين الذي كان من أكبر علماء الأندلس في ذلك الوقت.
وفي رحلة بن تومرت السابقة لمس حالة الضعف الشديدة التي أصابت المسلمين في شتى البقاع، سواء في أراضي الخلافة العباسية أو الأقاليم التابعة للدولة الفاطمية، كما إنه عاصر اجتياح الحملات الصليبية الأولى لبلاد الشام، وتأسيسهم لعدد من الإمارات الصليبية في بيت المقدس و الرها وأنطاكية وطرابلس.
كل هذا جعل بن تومرت يُصدم من هول ما رآه، وهو ما دفعه إلى تبني منهج إصلاحي يقوم على التعليم والشرح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد يتطور الأمر ليصل إلى حد استخدام الأساليب العنيفة لفرض سلوكيات معينة ومنع سلوكيات أخرى، ولدى عودة بن تومرت من التعليمية وفي طريق عودته إلى المغرب توقف بالإسكندرية مندفعاً بكل كيانه نحو تحقيق رسالته كرقيب على الأخلاق العامة، ومتردداً على درس شيخ الإسكندرية الشهير أبي بكر الطرطوشي. وكان مشروع بن تومرت الإصلاحي يتمركز في نقاط ثلاث هي: إماتة المنكر، وإحياء العلم، وإخماد البدع.
لكن المكانة الكبرى التي اكتسبها بن تومرت جاءت حينما استقر ببلدته بين أبناء عشيرته من «الهرغيين»، فاستطاع بن تومرت ببلدته أن يجمع الكثير من الأنصار والأتباع الذين اقتنعوا بدعوته، ففرض عليهم نظاماً تعليمياً وتربوياً دقيقاً، وألف بعض الكتب لتدريسها لهم ومن أهمها كتابه «أعز ما يُطلب» ورسالة «العقيدة المرشدة»، وهي رسالة وجيزة لا تتجاوز الصفحتين في علم التوحيد وأصول الدين، كما استخدم بعض أتباعه المقربين ليكونوا عيوناً له ويخبروه بشأن كل ما يحدث في أركان دعوته.
لمّح لمهديته من الأحاديث النبوية.. فرّد من حوله «أنت المهدي»!
عمل بن تومرت على التمهيد لإعلان مهديته عبر إذاعة ونشر أحاديث المهدي وأوصافه، كما أنه ادعى أنه علوي النسب، وأنه من سلالة أبناء الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفي رمضان عام 515 هـ/1121م ألقى خطبة أعلن فيها أمام أصحابه وأتباعه أنه هو نفسه «المهدي المنتظر» الذي بشرت به الأحاديث النبوية الشريفة، حيث قال: «الحمد لله الفعّال لما يريد، القاضي بما يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يبعثه الله إذا نسخَ الحقّ بالباطل، وأزيل العدل بالجور، مكانه المغرب الأقصى وزمنه آخر الزمان، اسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبُه نسب النبي صلى الله تعالى وملائكته الكرام المقربين عليه وسلم، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان، والاسم الاسم، والنسب النسب، والفعل الفعل».
ولما رأى أصحابه هذا التلميح إلى نفسه قاموا إليه وقالوا له إن هذه الصفة لا توجد إلا فيك، فأنت هو المهدي، فقاموا وبايعوه.
وفي رواية طريفة نُسبت لمحمد بن تومرت في كتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» لعبد الواحد المراكشي:
«خرج من الإسكندرية مطروداً منها، طرده واليها بعدما خشي منه، ثم ركب في سفينة متَّجهة إلى بلاد المغرب العربي، وعلى السفينة -أيضاً- ظلَّ بن تومرت على حِدَّته في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فمنع الخمور على ظهر السفينة، وأمر بقراءة القرآن. واشتدَّ على الناس واختلف معهم كثيراً، فألقوه في عُرض البحر، وتركوه وساروا إلى بلاد المغرب، وهو يسبح بإزاء السفينة نصف يوم كامل، فلما رأوا ذلك أشفقوا عليه، وأنزلوا مَنْ أخذه من البحر وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب»
استخلف عبد المؤمن في خطبته.. الشاب الذكي البارع والعسكري المُحنك
استدعى محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين أصحابه، قبل موته بأيام، وقد أراد أن يستخلف عليهم عبد المؤمن بن عليّ، فقال في خطبته التي عرّفها البعض بكونها خطبة الوداع «إن الله سبحانه -له الحمد- منَّ عليكم -أيتها الطائفة- بتأييده، وخصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده»
وأضاف «وقد اخترنا لكم رجلاً منكم، وجعلناه أميراً عليكم، هذا بعد أن بلَوْناه في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك كله ثابتاً في دينه، متبصراً في أمره، وإني لأرجو أن لا يُخْلِف الظن فيه، وهذا المشار إليه هو: عبد المؤمن، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعاً مطيعاً لربه، فإن بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أمره، ففي الموحِّدين -أعزهم الله- بركة وخير كثير، والأمر أمر الله يقلِّده من شاء من عباده».
لم يكن عبد المؤمن يتجاوز الثلاثين من عمره عندما تولى الخلافة، غير أنه استطاع بذكائه وبراعته في التنظيم المحكم عسكرياً وإدارياً أن يبعث من جديد حركة الموحدين وأن ينتصر على جميع خصومه وأن يوحد المغرب العربي تحت راية دولته، فبدأ عبد المؤمن بن علي حربه ضد المرابطين بمهاجمتهم واستيلائه على القرى الجبلية من الشمال في مسيرة قادته إلى مدينة سبتة ثم ندرومة تلمسان ووهران حيث التقى بجيش المرابطين، وبعدها اتجه عبد المؤمن غرباً فاستولى على مكناس ثم فاس، قبل أن يحاصر مراكش عاصمة المرابطين، ويدخلها عام 541هـ/1146م
حكم عبد المؤمن بن علي أربعاً وثلاثين سنة تعد من أزهى عصور المغرب، ورث عن بن تومرت حركة ثائرة فحولها إلى دولة، ومد سلطانها حتى شلمت المغرب كله وما بقي من الأندلس ووضع لها القواعد والنظم الإدارية التي تمكن من تسيير أمور الدولة وإدارة شؤونها.
التعليقات على الموضوع